الغلط في القانون

الغلط في القانون

الغلط كما هو معلوم من أهم عيوب الإرادة، وأكثرها شيوعًا في العمل، ومن ثم لم يخلوا قانون من القوانين من النص عليه، وتنظيم أحكامه.

وقد حدد القانون عيوب الرضا وهي الإكراه والغلط والتدليس والاستغلال، بيد أن الحياة العملية أثبتت لنا أن الغلط من أكثر عيوب الرضا أهمية لكثرة حدوثه، لأنه على عكس العيوب الأخرى لا يقع نتيجة لتأثير الغير كما هو الحال في الاستغلال والتدليس والإكراه، وإنما ينتج عن تصور ذاتي خاطئ مخالف للواقع وقع فيه المتعاقد من تلقاء نفسه.

والشريعة الإسلامية قد سبقت إلى ذلك منذ قرون عديدة، فكما حظي بأهمية تشريعية ولم يخل منه مؤلف من مؤلفات شراح القانون الوضعي، فقد حظي كذلك بأهمية فقهية فائقة في أمهات كتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه.

تعريف الغلط 

تحديد نطاق فكرة الغلط 

شروط الاعتداد بالغلط في القانون 

الغلط الجوهري 

اتصال الغلط بالمتعاقد الأخر 

وسوف نتناول في مقالنا تعريف الغلط، مع تحديد نطاقه، وشروط الاعتداد بالغلط في القانون.

تعريف الغلط :

الغلط هو وهم يقوم في ذهن الشخص فيصور له الأمر على غير حقيقته، ويكون هو الدافع إلى التعاقد. ويُمكن ان نقول أيضًا انه تصور كاذب للواقع يؤدي بالشخص إلى إبرام تصرف لم يكن ليبرمه لو تبين له حقيقة هذا الواقع، فهو يصيب الإرادة عند إبرام التصرف، فيوجهها وجهة لا تتفق مع الواقع، الذي تمثل في ذهن العاقد على غير حقيقته، كأن يشتري شخص تمثالًا يعتقد أنه أثري وهو ليس كذلك، أو يشتري شقة يعتقد أنها بحرية فيتضح أنها قبلية.

والغلط يتحقق عند انتفاء علاقة التوافق بين الوقائع التي يعلم بها الجاني، وتلك التي يحرمها الشارع، ويبنى على ذلك أن الغلط حالة نفسية تقوم بشخص الجاني، ولذلك فانه يقاس بمعيار شخصي، فيبحث عنه في نفس مرتكب الفعل، فإن توافر فإنه يكون مؤثرًا، فالجاني الواقع في الغلط هو الذي يقصد شيئًا معينًا بالأذى، لوجود تصور غير صحيح وفكرة خاطئة في ذهنه عن ذلك الشيء، حيث يتبين أن حقيقة ذلك الشيء الذي وقع عليه الأذى تختلف عن الفكرة المرسومة في ذهن الواقع في الغلط عنه.

ومن ثم فإنه في حال ارتكب الفعل تحت تأثير الغلط في الواقع فإن مسؤولية الفاعل تتحدد على أساس الوقائع التي اعتقد وجودها أن كان من شأنها أن تعدم المسؤولية أو تخففها، ولكن بشرط أن يكون اعتقاده قائمًا على أسباب معقولة، أما في حال أن كان الغلط الذي جعل الفاعل يعتقد عدم مسؤوليته عن فعله ناشئًا عن إهمال فإنه يُسأل هنا عن مسؤولية غير عمدية إذا كان القانون يعاقب على الفعل باعتباره جريمة غير عمدية.

تحديد نطاق فكرة الغلط :

هناك أنواعًا مختلفة من الغلط، لا يُعتبر الغلط فيها عيبًا في الإرادة يجعل العقد قابلًا للإبطال، وإنما حقيقته شيئًا آخر، وهناك حالة قد تتشبه مع الغلط وهي التي تتعلق بتخلف شرط من شروط العقد.

الغلط المانع :

وهو أحد أنواع الغلط التي أشارت إليه النظرية التقليدية، وأطلقت عليه هذه التسمية، وهو إما أن يقع في طبيعة العقد، فيعطي شخص لآخر شيء لكي يودعه عنده فيعتقد أنه هبه، أو يقع في ذاتية المحل كأن يؤجر المالك شقة معينة، فيعتقد المستأجر أنه يستأجر شقة أخرى، وقد يقع في السبب كأن يتعهد الوراث بأن يسلم شخصًا منزلًا معينًا بهدف تنفيذ وصية ثم يتضح أن الموصي قد رجع عن هذه الوصية.

وهذا النوع من الغلط يعدم الإرادة فحقيقته أن توافق الإرادتين لم يتم في شأن ركن من أركان العقد فيكون ركن التراضي غير موجود وبالتالي يقع العقد باطلًا، وبهذا يختلف عن الغلط المقصود في مقالنا، فالغلط الذي بصدد الحديث عنه هو غلط يعيب الإرادة ولا يمس وجودها، فيكون من شأنه أن يجعل العقد قابلًا للإبطال أو الفسخ أو يجعله موقوفًا.

ويصدق هذا على القانون المصري وبعض القوانين العربية التي أخذت بالنظرية الحديثة في الغلط، أما القانون الأردني فقد اعتبر الغلط المانع صورة من صور الغلط.

الغلط في التعبير عن الإرادة :

وذلك يتحقق حين يصدر شخصًا ما تعبيرًا ما يعتقد أنه يطابق إرادته الحقيقية رغم أنه يخالفها، فتكون الإرادة الظاهرة حينئذ مغايرة للإرادة الباطنة. وهذا المسألة لا علاقة لها بالغلط المقصود في مقالنا، فهي تتعلق بوجود الإرادة لا بصحتها.

الغلط في نقل الإرادة :

وذلك حين يتولى وسيط أو رسول نقل الإرادة إلى من وجهت إليه، فيخطئ في نقلها، أي ينقلها على غير وجهها الصحيح، وذلك مثل ان يرسل البائع إلى المشتري برقية يذكر فيها ثمن الشيء المبيع فيقع خطأ في البرقية يؤدي إلى تحريف في الثمن الذي ذكره البائع، وهذه حالة لا تنطوي على غلط يعيب الإرادة بالمعنى الذي نقصده، فالحل فيها يكون بأحد أمرين ، أولهما أن نعتبر أن توافق الإرادتين لم يتم فعلًا، فلا ينعقد العقد، أو نأخذ بالإرادة الظاهرة، التي كانت نتيجة لخطأ في النقل، والصحيح هو الحل الأول، وبغض النظر عن أي الحلول سنأخذ بها، إلا أن الوسيط الذي أخطأ في النقل تقع عليه مسؤولية تعويض الضرر الذي تحقق.

الغلط المادي :

وهو ما يُطلق عليه الغلط في الحساب وغلطات القلم، وهذا النوع من الغلط لا أثر له على سلامة الإرادة وإنما يتعين تصحيحه، وقد نصت المادة (123) من القانون المدني المصري والمادة (155) من القانون المدني الأردني على معنى أنه لا يؤثر في صحة العقد مجرد الغلط في الحساب ولا غلطات القلم، ولكن يجب تصحيح الغلط.

تخلف شرط من الشروط المتفق عليها في العقد :

وهي حالة أن يتفق طرفا العقد على شرط معين، ومن ثم حين يحين التنفيذ يتبين لكلا الطرفين أن هذا الشرط غير متوافر، كأن يتفق الطرفان في عقد البيع على أن تكون البضاعة المبيعة من صناعة دولة معينة، ومن ثم حين يحين التسليم يجد المشتري أن البضاعة من صناعة دولة غير الدولة التي طلبها. فالوضع هنا لا ينطوي على غلط، بل حقيقته أن أحد الطرفين وهو البائع لم يوف بالتزامه الذي سبق الاتفاق عليه، ومن ثم فالطرف الآخر لا يكون أمامه إلا أن يطلب تنفيذ الالتزام أو الفسخ.

وبالتالي فالغلط الذي يعيب الإرادة لا يقع على لكن في العقد، ولا علاقة له بالخطأ في التعبير عنها، ولا بالخطأ في تدوينها، ولا بالخطأ في نقلها، فهو يتميز عن الحالة التي فيها يتخلف شرط متفق عليه في العقد، فهو يتناول تكوين الإرادة عند إبرام التصرف في شأن اعتبار يهم التعاقد ولا يُعتبر ركنًا في العقد.

شروط الاعتداد بالغلط في القانون :

ساوى الفقه والقضاء والتشريع بين الغلط في القانون بالغلط في الواقع من حيث أثرهما على صحة التصرفات القانونية، ومن ثم فإن الغلط في القانون لا يُعتد به إلا إذا توافرت فيه شروطه التي نص عليها القانون صراحة، وهي أن يكون الغلط جوهريًا دفع المتعاقد إلى الرضاء بالتعاقد بما لم يكن ليرضى لولا وقوعه بالغلط، والشرط الآخر أن يكون الغلط واقعًا في نطاق العقد.

وأغلب القوانين الحديثة قد نصت على أن شروط الغلط في الواقع هي نفسه شروط الغلط في القانون، وقد نص على ذلك صراحة في القانون المدني المصري في المادة (122) حيث جاء فيها : ” يكون العقد قابلًا للإبطال لغلط في القانون إذا توافرت فيه شروط الغلط في الواقع طبقًا للمادتين السابقتين ، هذا مالم يقضي القانون بغيره “.

ونصت المادة (154) من القانون المدني الأردني على أنه : ” للعاقد فسخ العقد إذا وقع منه غلط في القانون وتوافرت شروط الغلط في الواقع طبقًا للمادتين (151، 153) مالم يقضي القانون بغيره “

غير أن الغلط في القانون يتميز عن الغلط في الواقع بوجوب توافر شروط أخرى غير الشرطين السابقين، ومن هذه الشروط الخاصة، أن يكون المتعاقد المتمسك بالغلط في القانون معذور في تمسكه بالغلط، وأن يكون هدفه في تمسكه بالغلط تطبيق القانون لا استبعاده، وأن يقع الغلط في القانون على قاعدة قانونية غير مختلف في تفسيرها، بالإضافة إلى عدم وجود نص في القانون يقضي باستبعاد الغلط في القانون في بعض الحالات.

وعليه نستنتج وجود نوعين من شروط الغلط في القانون وهي شروط عامة نص عليها القانون صراحة، وشروط خاصة متعلقة بالغلط في القانون يجب توافرها فيه وإن لم ينص القانون عليها صراحة، ولكن قد استقر الفقه والقضاء على وجوب توافرها فيه.

وسنتناول في مقالنا الشروط العامة التي نص القانون على وجوب توافرها في الغلط في القانون كما سيلي :

الغلط الجوهري :

شرط أن يكون الغلط جوهريًا هو شرط لازم للاعتداد بأثر الغلط سواء كان غلطًا في الواقع أو غلطًا في القانون على إرادة المتعاقد، والغلط الجوهري يُقصد به الغلط الذي دفع المتعاقد إلى الرضى بالعقد، بما لم يكن ليرضى لولا وقوعه بهذا الغلط.

وقد تطورت نظرية الغلط حيث خرجت من خلاله في حدود إطار النظرية التقليدية ، والتي كانت تقسم الغلط إلى ثلاثة أنواع ( غلط يُبطل العقد بطلانً مطلقًا، وغلط يُبطل العقد بطلانًا نسبيًا، وغلط لا يوثر على العقد ) واعتمدت النظرية التقليدية في هذا التقسيم على معيار مادي موضوعي يهتم أساسًا بالموضوع الذي ينصب عليه الغلط أكثر من اهتمامها بثر هذا الغلط على رضاء المتعاقد.

إلا أن القضاء الحديث وكذلك الفقه الفرنسي لم يأخذا بالنظرية التقليدية فظهرت النظرية الحديثة في الغلط، والتي أهملت فكرة الغلط المانع ولم تقيم له وزنًا، لأنها تتصل بوجود التراضي لا بصحته، وبالتالي فقد استبعدت النظرية الحديثة الغلط المانع من نطاق نظرية الغلط، أما فيما يتعلق بالغلط المؤثر والغلط غير المؤثر، فالنظرية الحديثة قد هدمت الحاجز بينهما ورأت أن التمييز بين هذين النوعين من الغلط يجب أن يكون على أساس مرن يُمكن تطبيقه على أحوال الغلط المختلفة.

فمن الغلط ما يقع في قيمة الشيء وفي الباعث على التعاقد ومع ذلك يؤثر في صحة العقد، لأنه كان هو الدافع إلى التعاقد، ومن الغلط ما يقع على مادة الشيء ذاتها، ومع ذلك لا يؤثر في صحة العقد لأنه لم يكن هو الدافع إلى التعاقد، وبالتالي فالعبرة ليست بأن الغلط وقع في مادة الشيء أو في قيمته، ولكن العبرة بأن الغلط كان جوهريًا، وبأنه كان هو الدافع الرئيسي للتعاقد، فليس هناك أحوال محددة يؤثر فيها الغلط على صحة العقد، وأحوال أخرى محددة لا يؤثر فيها الغلط على صحة العقد.

فالمهم إذا أن يكون الغلط في القانون جوهريًا دفع المتعاقد إلى التعاقد، فالشخص الذي يشتري أرضًا ويعتقد أن له حق البناء عليها، إلا أن القانون يحظر ذلك، يقع في القانون يقع في صفة جوهرية في الشيء محل الالتزام، وهي قابلية الأرض للبناء عليها، ومن ثم فمن حق المتعاقد الواقع في الغلط أن يطلب فسخ العقد على أساس الغلط في القانون المتعلق بصفة جوهرية في محل العقد.

اتصال الغلط بالمتعاقد الأخر :

لا يكفي فقط أن يكون الغلط جوهريًا دفع المتعاقد إلى الرضاء بالتعاقد، بل يشترط بالإضافة إلى هذا أن يكون موضوع الغلط في القانون متصًلا بالمتعاقد الآخر، أي أن يكون المتعاقد الآخر على علم بالغلط الذي وقع فيه المتعاقد معه، وهذا الشرط اقتصاه العمل على استقرار التعامل.

فأمام الرغبة في العمل على استقرار التعامل يضحي القانون بتعييب الإرادة بالغلط إذا كان المتعاقد الآخر بعيدًا عن هذا العيب ولم يتصل به، والقول بخلاف ذلك فيه خطورة كبيرة على استقرار المعاملات، وذلك لأن أي طرف في أي عقد قد يستطيع بسهولة إذا ما أراد أن يتهرب من الاتفاق الذي يراه في غير مصلحته أن يدعي بأنه هناك صفة ما (جوهرية) مرغوبة لديه غير متوفرة في الشيء محل العقد أو في شخص المتعاقد الآخر، وذلك السبب هو ما دفع الفقه والقضاء ومن بعدهم التشريع في العديد من الدول إلى محاولة سد الطريق أمام هذه المشكلة، وذلك من خلال اشتراط أن يكون موضوع الغلط متصلًا بالمتعاقد الآخر.

النصوص القانونية التي تتعلق بالغلط في القانون المدني الأردني

المادة 151    لا يعتبر الغلط الا فيما تضمنته صيغة العقد او دلت عليه الملابسات وظروف الحال او طبائع الاشياء او العرف .

المادة 152    إذا وقع الغلط في ماهية العقد او في شرط من شروط الانعقاد او في المحل بطل العقد .

المادة 153   للعاقد فسخ العقد إذا وقع منه غلط في امر مرغوب كصفة في المحل او ذات المتعاقد الآخر او صفة فيه .

المادة 154     للعاقد فسخ العقد إذا وقع منه غلط في القانون وتوافرت شروط الغلط في الواقع طبقا للمادتين (151و153) ما لم يقض القانون بغيره .

المادة 155    لا يؤثر في العقد مجرد الغلط في الحساب او الكتابة وانما يجب تصحيحه .

المادة 156    1. ليس لمن وقع في غلط ان يتمسك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية .
ويبقى ملزما بالعقد الذي قصد إبرامه إذا اظهر الطرف الآخر استعداده لتنفيذ هذا العقد

Photo by George Becker on Pexels.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s