تحليل قانوني للمادة 3 من قانون مكافحة غسل الأموال الأردني: دراسة تفصيلية ووجهات نظر قانونية وقضائية
مقدمة:
يُعد قانون مكافحة غسل الأموال الأردني من التشريعات الحيوية التي تهدف إلى صون النظام المالي والاقتصادي في المملكة من التهديدات التي تشكلها الجريمة المنظمة والأنشطة غير المشروعة. وتكتسب المادة الثالثة من هذا القانون أهمية قصوى باعتبارها النص القانوني الأساسي الذي يُعرّف جريمة غسل الأموال ويحدد أركانها وعناصرها. يهدف هذا البحث القانوني إلى تقديم تحليل تفصيلي وشامل لنص المادة الثالثة، مع استعراض وجهات النظر القانونية المختلفة والأحكام القضائية ذات الصلة، بهدف إلقاء الضوء على أهمية هذه المادة في مكافحة هذه الجريمة العابرة للحدود.
الإطار النظري: مفهوم غسل الأموال وأهمية تجريمه:
يُعرف غسل الأموال بأنه عملية إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال المتحصلة من أنشطة إجرامية، بهدف إضفاء صفة الشرعية عليها وإدخالها إلى النظام المالي والاقتصادي بشكل يبدو قانونياً. وتكمن أهمية تجريم غسل الأموال في حماية الاقتصاد الوطني من الآثار السلبية الناجمة عن تدفق الأموال غير المشروعة، مثل زعزعة استقرار الأسواق المالية، وتشجيع الجريمة المنظمة، وتقويض سيادة القانون. وتعتبر التوصيات الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF) مرجعاً أساسياً في هذا المجال، حيث تحدد المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
نص المادة 3 من قانون مكافحة غسل الأموال الأردني (مع تحليل تفصيلي):
تنص المادة الثالثة من قانون مكافحة غسل الأموال الأردني على ما يلي:
المادة (3) :
أ- يعد مرتكباً لجريمة غسل الاموال:-
1- كل شخص يعلم بأن الأموال متحصلات جريمة اصلية وسواء ارتكب الجريمة الاصلية ام لا وذلك في حال قيامه عمداً بارتكاب أي من الأفعال التالية:-
أ- تحويل الأموال أو نقلها لغايات تمويه أو إخفاء مصدرها غير المشروع أو لغايات مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجريمة الأصلية أو ساهم في ارتكابها.
ب- إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال أو مصدرها أو مكانها أو طريقة التصرف بها أو حركتها أو ملكيتها أو أي من الحقوق المرتبطة بهذه الأموال.
ج- اكتساب الأموال أو استخدامها أو إدارتها أو استثمارها أو حيازتها.
2- كل شخص يشرع في ارتكاب أي من الأفعال المشار إليها في البند (1) من هذه الفقرة أو يساعد أو يحرض أو يسهل أو يخفي ارتكاب هذه الجريمة أو يتدخل في ارتكابها أو يعمل كشريك أو يرتبط مع أو يتآمر لمحاولة ارتكاب هذه الجريمة.
ب- عند اثبات ان الاموال هي متحصلات جريمة فلا يشترط أن يكون قد تم إدانة شخص بارتكاب الجريمة الاصلية.
ج- لغايات هذا القانون، تشمل متحصلات الجريمة ما يلي:-
- أي متحصلات ناجمة عن ارتكاب فعل اجرامي خارج المملكة شريطة أن يشكل هذا الفعل جريمة في المملكة وفي الدولة التي وقع فيها.
- أي متحصلات ناجمة عن أي فعل يعتبر جريمة بمقتضى اتفاقيات دولية صادقت عليها المملكة شريطة ان يكون معاقبا عليها في القانون الاردني.
تحليل تفصيلي لأركان وعناصر المادة الثالثة:
- الركن المادي: يتكون الركن المادي لجريمة غسل الأموال من ارتكاب أحد الأفعال المنصوص عليها في الفقرات (أ)، (ب)، و (ج) من المادة الثالثة. وتشمل هذه الأفعال:
- تحويل الأموال أو نقلها (الفقرة أ): يشمل هذا الفعل أي عملية يتم بموجبها تغيير شكل الأموال أو مكانها أو حيازتها، بهدف إخفاء مصدرها غير المشروع أو مساعدة مرتكب الجريمة الأصلية. وقد يتم التحويل أو النقل عبر المؤسسات المالية أو غيرها من القنوات.
- إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للأموال (الفقرة ب): يتعلق هذا الفعل بإخفاء أو تضليل المعلومات المتعلقة بمصدر الأموال أو ملكيتها أو حركتها. وقد يتم ذلك من خلال استخدام شركات وهمية، أو حسابات متعددة، أو معاملات معقدة.
- اكتساب الأموال أو حيازتها أو استخدامها (الفقرة ج): يشمل هذا الفعل أي شكل من أشكال الانتفاع بالأموال مع العلم بمصدرها غير المشروع. ولا يشترط أن يكون الشخص الذي يكتسب أو يحوز أو يستخدم الأموال هو نفسه مرتكب الجريمة الأصلية.
- الركن المعنوي (القصد الجنائي): تتطلب جريمة غسل الأموال توافر القصد الجنائي لدى مرتكب الفعل، وهو ما يتمثل في “العلم بأن الأموال متحصلة من جريمة أو يشتبه في ذلك بشكل معقول”. وهذا يعني أن القانون لا يشترط العلم اليقيني بمصدر الأموال، بل يكفي وجود شك معقول لدى المتهم بأن هذه الأموال ذات مصدر غير مشروع. ويُعتبر هذا المعيار مهماً لمواجهة التحديات التي تواجه إثبات العلم اليقيني في مثل هذه الجرائم.
- الأموال المتحصلة من جريمة (مصدر الأموال غير المشروع): تشير المادة الثالثة إلى أن الأموال المعنية يجب أن تكون “متحصلة من جريمة”. ويشمل هذا المصطلح أي فعل يُعتبر جريمة جنائية أو جنحية بموجب القانون الأردني وفي قانون الدولة الأخرى، وذلك في سياق مكافحة غسل الأموال العابر للحدود. ويُعتبر تحديد الجريمة الأصلية التي نتجت عنها الأموال عنصراً مهماً في إثبات جريمة غسل الأموال.
- الأفعال التبعية (الفقرة د): تجرم الفقرة (د) من المادة الثالثة الأفعال التبعية المتعلقة بجريمة غسل الأموال، مثل المشاركة، والتواطؤ، والشروع، والتحريض، والمساعدة، وتقديم المشورة. ويهدف هذا النص إلى تجريم جميع أشكال المساهمة في ارتكاب جريمة غسل الأموال، بغض النظر عن الدور الذي يلعبه كل شخص.
وجهات نظر قانونية حول المادة الثالثة:
- اتساع نطاق التجريم: يرى بعض الفقهاء القانونيين أن المادة الثالثة تتميز باتساع نطاق التجريم، حيث تشمل مجموعة واسعة من الأفعال التي يمكن أن تُعتبر غسلاً للأموال. وبنظر اخرين أن ذلك يُعتبر هذا الاتساع ضرورياً لمواجهة التطور المستمر في أساليب غسل الأموال.
- معيار “الاشتباه المعقول”: يُثير معيار “الاشتباه المعقول” في العلم بمصدر الأموال بعض النقاشات القانونية حول مدى وضوح هذا المعيار وكيفية تطبيقه في الواقع العملي. يرى البعض أن هذا المعيار يمنح السلطات صلاحيات واسعة قد تؤدي إلى المساس بالحقوق الفردية، بينما يرى آخرون أنه ضروري لمكافحة الجريمة المنظمة التي تعتمد على إخفاء مصدر أموالها.
- العلاقة بين جريمة غسل الأموال والجريمة الأصلية: تُعتبر العلاقة بين جريمة غسل الأموال والجريمة الأصلية من المسائل القانونية المهمة. يرى البعض أن إدانة المتهم بجريمة غسل الأموال لا تتطلب بالضرورة إدانته بالجريمة الأصلية، بينما يرى آخرون أن إثبات وقوع الجريمة الأصلية ضروري لإثبات جريمة غسل الأموال، والثاني هو الأصح، فلا يعقل أن ترقى جريمة غسل الأموال غلى مرتبة الجناية إلا بجريمة مركبة ، وهي أن تكون جريمة ثابتة ومؤكدة للحصول على الأموال ثم بعد ذلك غسله.
الأحكام القانونية والقضائية المتعلقة بالمادة الثالثة:
يتطلب تطبيق المادة الثالثة من قانون مكافحة غسل الأموال الأردني وجود أحكام قانونية وإجراءات قضائية واضحة. تشمل هذه الأحكام:
- قانون الإجراءات الجزائية: يحدد قانون الإجراءات الجزائية الإجراءات التي يجب اتباعها في التحقيق مع المتهمين بارتكاب جريمة غسل الأموال وتقديمهم للمحاكمة.
- قانون البينات: يحدد قانون البينات قواعد الإثبات التي يجب على النيابة العامة تقديمها لإثبات ارتكاب المتهم لجريمة غسل الأموال، بما في ذلك إثبات العلم بمصدر الأموال غير المشروع.
- الأحكام القضائية: تلعب الأحكام الصادرة عن المحاكم الأردنية دوراً هاماً في تفسير وتطبيق المادة الثالثة من قانون مكافحة غسل الأموال. من خلال تحليل هذه الأحكام، يمكن فهم كيفية تعامل القضاء مع مختلف المسائل القانونية المتعلقة بهذه الجريمة، مثل تعريف “الاشتباه المعقول”، وإثبات العلم بمصدر الأموال، وتحديد العقوبات المناسبة. (تجدر الإشارة هنا إلى أن الوصول إلى تفاصيل الأحكام القضائية يتطلب الرجوع إلى قواعد البيانات القانونية والمصادر القضائية المتاحة).
تحديات تطبيق المادة الثالثة:
يواجه تطبيق المادة الثالثة من قانون مكافحة غسل الأموال الأردني بعض التحديات، من أبرزها:
- إثبات العلم بمصدر الأموال غير المشروع: يُعتبر إثبات علم المتهم بأن الأموال متحصلة من جريمة من أصعب التحديات التي تواجه جهات إنفاذ القانون. غالباً ما يلجأ مرتكبو جريمة غسل الأموال إلى أساليب معقدة لإخفاء مصدر أموالهم، مما يجعل من الصعب تقديم أدلة قاطعة على علم المتهم.
- الطبيعة العابرة للحدود لجريمة غسل الأموال: تتطلب مكافحة جريمة غسل الأموال تعاوناً دولياً فعالاً، نظراً لطبيعتها العابرة للحدود. قد يواجه الأردن صعوبات في الحصول على معلومات وأدلة من دول أخرى لتتبع الأموال غير المشروعة وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.
- التطور المستمر في أساليب غسل الأموال: يسعى مرتكبو جريمة غسل الأموال باستمرار إلى تطوير أساليب جديدة لإخفاء مصدر أموالهم وتجنب الكشف عنهم. يتطلب ذلك من جهات إنفاذ القانون مواكبة هذه التطورات وتحديث استراتيجياتها وأدواتها لمكافحة هذه الجريمة.
مقترحات وتوصيات:
- تعزيز التدريب والتأهيل للعاملين في مجال مكافحة غسل الأموال: يجب الاستمرار في تطوير برامج تدريبية متخصصة للعاملين في جهات إنفاذ القانون والقضاء والمؤسسات المالية، لتعزيز قدراتهم على فهم وتطبيق قانون مكافحة غسل الأموال، بما في ذلك المادة الثالثة.
- تعزيز التعاون الدولي وتبادل المعلومات: يجب على الأردن تعزيز التعاون مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية المتخصصة في مجال مكافحة غسل الأموال، وتبادل المعلومات والخبرات لمواجهة هذه الجريمة بشكل فعال.
- مراجعة وتحديث التشريعات: يجب إجراء مراجعة دورية لقانون مكافحة غسل الأموال الأردني، بما في ذلك المادة الثالثة، للتأكد من مواكبته للمعايير الدولية وأفضل الممارسات في هذا المجال، ومعالجة أي ثغرات أو تحديات قد تظهر في التطبيق العملي.
- زيادة الوعي العام: يجب العمل على زيادة الوعي العام بمخاطر جريمة غسل الأموال وأهمية مكافحتها، من خلال تنظيم حملات توعية وورش عمل تستهدف مختلف شرائح المجتمع.
الخلاصة:
تُعد المادة الثالثة من قانون مكافحة غسل الأموال الأردني نصاً قانونياً أساسياً يُعرّف جريمة غسل الأموال ويحدد أركانها وعناصرها. يتميز هذا النص باتساع نطاق التجريم ويشمل مجموعة واسعة من الأفعال التي يمكن أن تُعتبر غسلاً للأموال. ومع ذلك، يواجه تطبيق هذه المادة بعض التحديات، مثل إثبات العلم بمصدر الأموال غير المشروع والطبيعة العابرة للحدود لهذه الجريمة. تتطلب مكافحة جريمة غسل الأموال بشكل فعال جهوداً متواصلة لتعزيز التدريب والتأهيل، وتعزيز التعاون الدولي، ومراجعة وتحديث التشريعات، وزيادة الوعي العام. من خلال فهم وتحليل المادة الثالثة بشكل معمق، يمكن للمختصين والمهتمين بمجال مكافحة الجريمة المالية المساهمة في تعزيز جهود المملكة لحماية نظامها المالي والاقتصادي من مخاطر غسل الأموال.
المراجع:
- قانون مكافحة غسل الأموال الأردني رقم (46) لسنة 2007 وتعديلاته.
- توصيات مجموعة العمل المالي (FATF).










