محامي جرائم إلكترونية 0797374777

المحامي مؤيد الذنيبات: خبيرك في قضايا الجرائم الإلكترونية (محامي قضايا الفيسبوك، سناب شات وإنستغرام)

أدى التطور التكنولوجي في الأردن إلى ظهور نوع جديد من النزاعات والجرائم التي تُرتكب عبر الفضاء الرقمي، مما استدعى وجود متخصصين قانونيين يجمعون بين المعرفة بالقانون الجنائي والفهم العميق للتقنيات الرقمية. يُعد المحامي مؤيد الذنيبات نموذجًا لـ محامي جرائم إلكترونية الذي تخصص في هذا المجال الحيوي. يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أهمية الاستعانة بخبير قانوني متخصص في قضايا الجرائم الإلكترونية، وكيف يتعامل المحامي الذنيبات مع القضايا المعقدة المتعلقة بـ الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

الفصل الأول: تأصيل الجرائم الإلكترونية في القانون الأردني

إن التعامل مع الجرائم الإلكترونية في الأردن يتم بموجب قانون الجرائم الإلكترونية رقم (17) لسنة 2023. هذا القانون لا يكتفي بتجريم الأفعال التقليدية، بل يوسع نطاق العقوبات لتشمل أي فعل غير مشروع يُرتكب عبر “الشبكة المعلوماتية” أو “نظام المعلومات”. (1)

يعمل المحامي مؤيد الذنيبات بشكل أساسي على تكييف الوقائع الرقمية المعقدة لتتوافق مع نصوص القانون. وتشمل القضايا التي تقع ضمن نطاق خبرته:

  1. قضايا القدح والذم والتحقير الإلكتروني: وهي من أكثر القضايا شيوعًا على منصات مثل فيسبوك وسناب شات، حيث يتم توجيه اتهامات بالتشهير أو الإساءة لشخص آخر عبر منشورات أو تعليقات.
  2. انتحال الشخصية الإلكترونية: يتمثل في استخدام صورة أو اسم أو صفة شخص آخر عبر شبكة الإنترنت بقصد الإساءة أو الاحتيال. (2)
  3. التهديد والابتزاز الإلكتروني: وهي من أخطر القضايا التي تستهدف الضحايا عبر الإنترنت، ويسعى فيها الجاني للحصول على منفعة أو إكراه الضحية على فعل شيء.
  4. الاعتداء على البيانات والأنظمة: كجرائم الاختراق، والدخول غير المصرح به إلى أنظمة معلومات الغير.

الفصل الثاني: المهارات الجوهرية لـ “محامي جرائم إلكترونية”

تتطلب قضايا الجرائم الإلكترونية خبرة مختلفة عن القضايا الجنائية التقليدية، وهذا هو محور تخصص المحامي الذنيبات كـ محامي أنترنت.

المهارة التخصصيةالإيضاح في القضايا الإلكترونية
تحليل الدليل الرقميالقدرة على تحديد ما إذا كان الدليل المستمد من الهاتف أو الحاسوب (كالمحادثات، الصور، الفيديوهات) قد تم جمعه بطريقة قانونية وسليمة وفقًا لأوامر النيابة العامة.
التكييف القانوني الصحيحالتمييز بين جريمة “إساءة استخدام الشبكة” (تكون العقوبة أخف) وجريمة “الذم والقدح الصريح” (تكون العقوبة أشد)، وتحديد المادة القانونية الأنسب للواقعة.
إجراءات التحقيق والتفتيشالإلمام بإجراءات التفتيش والضبط القانونية للأجهزة الإلكترونية، والطعن في أي إجراء غير قانوني يُبطل الدليل الذي استندت إليه النيابة العامة.
حماية الخصوصيةالتركيز على حقوق الموكل الدستورية في الخصوصية، والتأكد من عدم انتهاكها أثناء عملية جمع الأدلة الرقمية. (3)

الفصل الثالث: استراتيجيات الدفاع في قضايا السوشيال ميديا

بصفته محامي قضايا سناب شات و محامي أنستا (إنستغرام)، يعتمد المحامي مؤيد الذنيبات على استراتيجيات دفاعية دقيقة لتفنيد الاتهامات الموجهة للموكلين، خاصة في قضايا الذم والقدح:

  1. الدفع بانتفاء القصد الجرمي (سوء النية): إثبات أن المنشور أو التعليق لم يكن يهدف إلى الإساءة المباشرة أو التشهير، وإنما كان مجرد نقد مباح أو رأي شخصي لا يشكل جريمة قانونية.
  2. نفي نسبة الفعل للمتهم: في كثير من الأحيان، يُدفع بأن الحساب الذي قام بنشر الإساءة قد تم اختراقه، أو أن المتهم لم يكن هو المستخدم الفعلي للحساب وقت ارتكاب الجريمة. (4)
  3. الدفع بعدم صحة التبليغ: التركيز على أن المتهم لم يتم تبليغه أصوليًا، أو أن إجراءات ملاحقته تمت دون مراعاة الأصول القانونية السليمة. (5)
  4. التركيز على الشق الجزائي والمدني: في قضايا الذم، يكون هناك شقان: الشق الجزائي (العقوبة) والشق المدني (التعويض). يمكن للمحامي التفاوض على تسوية مدنية لإنهاء النزاع الجنائي.

الخاتمة: تخصصية المحامي في العصر الرقمي

يُظهر تخصص المحامي مؤيد الذنيبات كـ محامي قضايا الفيسبوك و محامي انترنت ضرورة التخصص في العصر الرقمي. إن الفهم الدقيق للطبيعة العابرة للحدود للإنترنت، وكيفية التعامل مع الأدلة الرقمية السريعة الزوال، هو ما يميز المحامي الخبير في الجرائم الإلكترونية. إن الاستعانة به تضمن للموكلين (سواء كانوا متهمين أو مجني عليهم) أن قضيتهم ستُدار بأعلى مستويات الاحترافية والدقة القانونية التي تتطلبها تحديات العصر الرقمي.

المصادر والمراجع

  1. قانون الجرائم الإلكترونية الأردني رقم (17) لسنة 2023، موقع ديوان التشريع والرأي الأردني.
  2. جريمة الاحتيال الإلكتروني“، موقع jordan-lawyer.com.
  3. دستور المملكة الأردنية الهاشمية، الفصل الثاني، الحقوق والحريات.
  4. كيف تثبت براءتك في جريمة احتيال؟“، موقع jordanlaws.org.
  5. إجراءات التقاضي في المحاكم الأردنية ب 5 مراحل“، موقع amman.legal.

التصرف المجرد في القانون المدني

التصرف المجرد

285 – التصرف المسبب والتصرف المجرد : قدمنا أن السبب ركن من أركان الالتزام ، لا يقوم الالتزام إلا به ، على فرق ما بين معنى السبب في النظرية التقليدية ومعناه في النظرية الحديثة . وقد كان القانون الروماني لا يعتد بالسبب ولا بالإرادة ذاتها في العقود الشكلية . ثم انتصر مذهب الرضائية في القرون الوسطى على يد الكنسيين ، فأصبحت الإرادة وحدها – مجردة من الشكل – ملزمة . ولكن الإرادة إذا كانت من جهة قد تجردت من الشكل فتحللت من هذا القيد ، فهي من جهة أخرى قد اقترنت بالسبب فاستبدلت قيد السبب بقيد الشكل .

أما الإرادة مجردة من الشكل ومن السبب معاً فلا يمكن أن يسلم بها كقاعدة في قوانين تأخذ بالإرادة الباطنة كالقوانين اللاتينية . فإن الأخذ بالإرادة الباطنة معناه أن تحرر الإرادة من عيوبها وأن تقترن بسببها . ولكن الأخذ بالإرادة الظاهرة يجعل من اليسير أن تباعد ما بينها وبين الإرادة الباطنة ، فتتجرد الإرادة الظاهرة من عيوب الإرادة الباطنة كما تتجرد من السبب الذي حرك هذه الإرادة ، ولا يبقى في مجال التعامل إلا هذه الإرادة الظاهرة المجردة ، وهذا ما يسمى بالتصرف المجرد .

وهناك فائدة كبيرة من تجريد الإرادة الظاهرة على هذا النحو ، إذ بهذا التجريد يصبح التصرف غير قابل للإبطال لا من طريق عيوب الإرادة ولا من طريق عيوب السبب . فالدائن في التصرف المجرد يستطيع أن يتمسك بحقه دون أن يستطيع المدين الدفع بإبطال التصرف لعيب في الإرادة أو لعيب في السبب . وكل ما يستطيع المدين هو أن يرجع بدعوى الإثراء على دائنه ، فيدفع دعواه إذا لم يكن قد وفى الدين ، أو يسترد ما دفع إذا كان قد وفى . ومن ثم يكون التصرف المجرد أداة قوية من أدوات الائتمان ، تشتد حاجة التعامل إليها كلما اشتدت الحاجة إلى الاستقرار . وإذا كان التعامل بتنازعه عاملان ، عامل احترام الإرادة وعامل الاستقرار ، فإن التصرف المسبب يستجيب للعامل الأول ، ويستجيب التصرف المجرد للعامل الثاني . ومنذ انتكصت الشكلية في العقود وساد مذهب الرضائية ، انتصر عامل الإرادة على عامل الاستقرار ، ولم يستطع عامل الاستقرار أن يسترد ما فقد إلا بظهور التصرف المجرد ففيه ينتصر على الإرادة كما رأينا . ومن هنا كان تطور العقد من تصرف شكلي إلى تصرف رضائي ، ثم من تصرف رضائي إلى تصرف مجرد ، تطوراً تعاقب فيه عاملا الاستقرار والإرادة على مراحل متتابعة ، كان الظفر في كل مرحلة منها لأحد العاملين على الآخر . ومن هنا أيضاً كان التصرف المجرد رجوعاً مهذباً إلى التصرف الشكلي ، كلاهما يستجيب لعامل الاستقرار ، ولكن التصرف الشكلي يستجيب إليه في جمعية بدائية ، ويستجيب إليه التصرف المجرد في جمعية متحضرة .

على أن التصرف المجرد – على شدة الحاجة إليه في استقرار التعامل وبخاصة إذا تقدمت التجارة وتشعبت سبلها واحتيج إلى أدوات ائتمان ثابتة – لم يظفر من القوانين اللاتينية ، وهي التي تأخذ بالإرادة الباطنة ، إلا بمكان ضيق محدود . وعلى النقيض من ذلك ظفر التصرف المجرد في القوانين الجرمانية ، وهي التي تأخذ بالإرادة الظاهرة ، بمكان رحب سما فيه إلى مرتبة القاعدة . ولا غرابة في ذلك ، فقد بينا أن التصرف المجرد يتمشى مع الإرادة الظاهرة التي تأخذ بها القوانين الجرمانية ( [1] ) . ويتعارض مع الإرادة الباطنة التي تأخذ بها القوانين اللاتينية .

ويبقى أن نستعرض حظ التصرف المجرد في كل من القوانين الجرمانية والقوانين اللاتينية ويدخل القانون المصري في هذه القوانين الأخيرة .

286 – التصرف المجرد في القوانين الجرمانية : لا نجد في التقنينات الجرمانية نصوصاً تعرض لنظرية السبب عرضاً مباشراً كما تفعل التقنينات اللاتينية . فالتقنين النمساوي لا يشير إلى السبب إلا في المادة 901 ليقرر أن الباعث لا اثر له في صحة عقود المعاوضات إلا إذا جعل منه المتعاقدان شرطاً صريحاً لصحة العقد . والتقنين الألماني لا يعرض للنظرية بنص صريح . وتقنين الالتزامات السويسري لا يعرض لها إلا في صورة عرضية عندما ينص في المادة 17 على أن الاعتراف بالدين صحيح حتى لو لم يذكر سببه . ويعلل ذلك عادة بان هذه التقنينات تأثرت بالقانون الروماني ، وهذا القانون كما رأينا لا يفسح مجالا واسعاً لنظرية السبب إذ أن فكرة السبب فيه فكرة مادية لا تتبين لها نتائج علية إلا في نطاق محدود ، وبخاصة في نطاق دعاوي الإثراء . ولكن بالرغم من أن هذه التقنينات لا تنص على نظرية السبب نرى التصرفات فيها نوعين : النوع الأول هو التصرفات السمببة ( Kausale Rechtsgeschaefte ) وهي اغلب التصرفات المدنية وفيها السبب ركن يجب أن تتوافر فيه شروطه المعروفة فيكون صحيحاً مشروعاً ، والنوع الثاني هو التصرفات المجردة ( Abstrakte Rechtsgeschaefte ) لا يعتد فيها بالسبب ولا بعيوب الإرادة وقد وضعت لها قواعد عامة سيأتي بيانها .

فالسبب لا يزال إذن موجوداً في القوانين الجرمانية ، ولكنه سبب بالمعنى المفهوم في النظرية التقليدية يراد به الغرض الموضوعي المباشر من التعاقد تمييزاً له عن الباعث ، ويشترط فيه أن يكون صحيحاً مشروعاً وإلا بطل العقد . أما الباعث فلا اثر له في صحة العقد ولو كان هو الذي دفع إلى التعاقد ( [2] ) .

وإلى جانب التصرفات المسببة توجد التصرفات المجردة ، وقد أفسح لها مجال واسع كما قدمنا . وهي طائفتان : طائفة عقود انتقال الملكية وطائفة العقود المنشئة للالتزامات .

فالأولى تنتقل بها الملكية – والحق العيني بوجه عام – دون اعتبار للسبب . ذلك أن الملكية في هذه التقنينات لا تنتقل بمجرد نشوء الالتزامات بنقلها ، بل لا بد من تنفيذ هذا الالتزام بطريق عقد آخر هو عقد انتقال الملكية ، فيذهب المتعاقدان إلى المكتب العقاري ويعلنان اتفاقهما ويسجلان هذا الاتفاق في السجل العقاري ( Livre Foncier ) . وعقد انتقال الملكية ، في القانون الألماني بنوع خاص ، عقد مجرد ، تنتقل به الملكية سواء كان العقد المنشيء للالتزام بنقلها صحيحاً أو معيباً . وإذا أتضح بعد ذلك أن العقد كان معيباً وأن الملكية انتقلت دون سبب ، فليس لمن خرج عنها إلا الرجوع بدعوى شخصية على من تلقاها هي دعوى الإثراء بلا سبب . وبذلك يتوافر لهذا العقد مزية الاستقرار والثبات . فما على الشخص حتى يثبت أنه يتعامل مع مالك العقار إلا أن يرجع إلى السجل العقار ، فمن كان اسمه مسجلا فيه كان هو المالك ، ولو كان في ذلك تضحية للمالك الحقيقي – أما التقنين السويسري فلا يمحي الغير الذي اعتمد على السجل العقاري إلا إذا كان حسن النية ( م 973 من التقنين المدني السوري ) . ومن ثم نرى أن التجريد يحتمل التدرج . وتأييداً لذلك نسوق مثلا آخر نأتي به من القانون المصري . فقد قضت المادة 15 من قانون رقم 114 لسنة 1946 الخاص بتنظيم الشهر العقاري بوجوب تسجيل دعاوي استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو التأشير بها ، ويترتب على هذا التسجيل أو التأشير أن حق المدعى إذا تقرر بحكم يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل الدعاوى أو التأشير بها ، ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما . ويتبين من ذلك أن من يتعامل مع غير المالك في عقار وهو حسن النية ، ويسجل عقده قبل أن يسجل المالك دعوى الاستحقاق ، يفضل على المالك وتخلص له ملكية العقار . والقاعدة كما نرى تنطوي على ضرب من التجريد .

والطائفة الأخرى من التصرفات المجردة عقود منشئة للالتزامات . وتشمل : ( أولاً ) حالات معينة بذاتها ، منصوصاً عليها . وهي – عدا الأوراق التجارية والسندات – حوالة الحق وحوالة الدين والتنازل عن الحق الشخصي والإنابة في الوفاء . وفي هذه الحالات يكون العقد مجرداً على النحو الذي رأيناه في عقود انتقال الملكية . فيتم نقل الحق أو الدين ويتحقق التنازل عن الحق الشخصي دون اعتبار للسبب في هذه الحوالة أو في هذا التنازل ، فإذا تبين أن السبب غير موجود أو غير مشروع فليس ثمة إلا الرجوع بدعوى الإثراء . كذلك التزام المناب للمناب لديه بالوفاء التزام مجرد عن السبب ، فلا يستطيع المناب أن يحتج على المناب لديه بما كان له أن يحتج به من دفوع ضد المنيب ( أنظر في التقنين الألماني : م 398 و م 413 لحوالة الحق ، وم 414 وما بعدها لحوالة الدين ، وم 397 للتنازل عن الحق الشخصي ، وم 784 للانابة في الوفاء – وانظر في تقنين الالتزامات السويسري : م 164 وما بعدها لحوالة الحق ، وم 179 فقرة ثالثة لحوالة الدين ، وم 115 للتنازل عن الحق الشخصي ، وم 468 للانابة في الوفاء ) . ( ثانياً ) التعهد المجرد بالوفاء ( promesse abstraite de payer ) والاعتراف المجرد بالدين ( reconnaissance abstraite de dette ) ، وهما الصورتان العامتان للتصرف المجرد . فتضع التقنينات الجرمانية هنا قاعدة عامة للتصرف المجرد ، وتجيز أن يتفق الدائن مع مدينه على أن يكون التزام المدين أو اعترافه بالدين مجرداً . فيوجد الالتزام في ذمته منفصلا عن السبب ، ويقوم هذا الالتزام حتى لو كان السبب غير موجود أو غير مشروع . وليس للمدين إلا دعوى الإثراء إزاء الدائن إذا تبين أن التزامه لم يكن مبنياً على سبب صحيح ، فيتخلص بذلك من التزام موجود أو يسترد ما دفعه وفاء لهذا الالتزام ( [3] ) . واشترطت المادة 780 من التقنين الألماني لصحة الالتزام المجرد أن يكون في ورقة مكتوبة ، إلا إذا كان تصفية لحساب أو عن صلح فلا تشترط الكتابة زولا يشترط تقنين الالتزامات السويسري الكتابة إطلاقاً ( م 17 ) ( [4] ) .

287 – التصرف المجرد في القوانين اللاتينية وفي القانون المصري : أما القوانين اللاتينية ، وهي مشبعة بنظرية السبب كما رأينا ، فلا تسلم بالتصرف المجرد . أو هي على الأقل لا تضع له قاعدة عامة كما فعلت التقنينات الجرمانية . وإذا كان هناك نص في كل من القانونين المصري والفرنسي يقضي بقيام الالتزام ولو لم يذكر سببه ( م 137 من القانون المصري الجديد و م 1132 من القانون الفرنسي ) ، فسنرى أن هذا النص لا يعرض إلا لمسالة من مسائل الإثبات ليلقى عبء الإثبات في السبب على عاتق المدين . وهناك فرق بين التزام مسبب ، يلقى على المدين فيه عبء إثبات انعدام السبب ، والتزام مجرد عن السبب . فالالتزام الأول ، إذا اثبت المدين أنه لا يقوم على سبب مشروع ، يكون العقد فيه باطلا . أما في الالتزام الثاني ، وهو الالتزام المجرد ، فيبقى العقد صحيحاً حتى لو اثبت المدين انعدام السبب أو عدم مشروعيته ، وليس أمام هذا إلا دعوى الإثراء كما سبق القول .

فالالتزام في القوانين اللاتينية هو إذن التزام مسبب . على أن هذه القوانين تقر الالتزام المجرد في حالات معينة منصوص عليها بذاتها ، وهي قليلة العدد . وقد نص القانون التجاري – حيث تشتد الحاجة للالتزام المجرد لاستقرار التعامل وسرعته – على عدد منها ، هي الكمبيالات والسندات تحت الإذن والسندات لحاملها . أما القانون المدني فقد نص على حالتين : التزام المناسب في الوفاء نحو المناب لديه والتزام الكفيل نحو الدائن .

ونقتصر هنا على ما ورد في هذا الصدد في القانون المدني المصري الجديد . فقد نصت المادة 361 على أن ” يكون التزام المناب قبل المناب لديه صحيحاً ولو كان التزامه قبل المنيب باطلا أو كان هذا الالتزام خاضعاً لدفع من الدفوع ، ولا يبقى للمناب إلا حق الرجوع على المنيب . كل هذا ما لم يوجد اتفاق يقضي بغيره ” ( [5] ) . أما في الكفالة فللكفيل أن يتمسك بجميع الأوجه التي حتج بها المدين ( م 782 مصري جديد ) ، ولكن التزام الكفيل نحو الدائن التزام مجرد لا يتأثر بالعلاقة مابين الكفيل والمدين ، ولا يجوز للكفيل أن يتمسك ضد الدائن بالدفوع التي له أن يتمسك بها ضد المدين . فإذا كفل الكفيل المدين في نظير أن يوفى المدين ديناً آخر عليه مضموناً برهن يثقل عقار الكفيل ، ولم يوف المدين بهذا الدين الآخر ، فإن التزام الكفيل نحو الدائن يبقى قائماً ، ولا يجوز للكفيل أن يدفع دعوى الدائن بان المدين لم يوف بما تعهد به من تخليص عقار الكفيل من الرهن ( [6] ) .

ويتبين مما قدمناه أن القانون المصري قد انحاز انحيازاً تاماً إلى القوانين اللاتينية ، وبقى في حظيرتها كما أسلفنا الإشارة . فاشترط في التصرفات أن تكون مسببة ، ولم يسلم بالتصرف المجرد إلا في حالات معينة بذواتها ( [7] ) .


 ( [1] ) يفسر الدكتور أبو عافية – في رسالته ” التصرف المجرد ” القاهرة سنة 1947 – التصرف المجرد علىاساس الإرادة الظاهرة . وعنده أن التصرف المجرد هو التصرف الذي صح بغض النظر عن اختلاف الإرادة الظاهرة عن الإرادة الباطنة ( فقرة 84 من الرسالة المشار إليها ) . ويرتب على ذلك أن التصرف المجرد ” نظام استثنائي خارج على القواعد العامةط ولا فرق في ذلك بين القانون الألماني والقانونين المصري والفرنسي ” ( فقرة 85 ) . ويرفض أن يكون المعيار في التصرف المجرد هو تجرده عن السبب ، ويذهب إلى أن المعيار هو تجدر التصرف عن الإرادة الباطنة ليتمحض إرادة ظاهرة .

ونلاحظ على هذا المذهب أن التصرف المجرد وهو يتجرد عن الإرادة الباطنة يتجرد في الوقت ذاته عن السبب ، وذلك سواء اعتبر السبب عنصراً مستقلا عن الإرادة الباطنة كما هي الحال في القوانين اللاتينية ، أو اعتبر عنصراً غير مستقل عن الإرادة الباطنة وعد من مقومات هذه الإرادة كما هي الحال في القانون الألماني . فالتصرف المجرد يتميز في جميع الأحوال بتجرده عن السبب . على أن المذهب الذي يقول به الدكتور أبو عافية يضيف شيئاً جديداً ، هو أن التصرف المجرد يتميز لا بتجرده عن السبب فحسب ، بل أيضاً بتجرده عن الإرادة الباطنة ذاتها .

 ( [2] ) أنظر كابيتان في السبب فقرة 83 – فقرة 84 وبنوع خاص ص 181 – ص 182 . ويستعرض الدكتور أبو عافية في رسالته المشار إليها ( فقرة 41 وما بعدها ) نظرية السبب في القانون الألماني من ناحيتي التصرف المجرد ومبدأ الإثراء بلا سبب . فيبدأ بتحديد ما يسميه الألمان ” الإضافة إلى الذمة ” ( Vermogenszuwendug ) ، وهي عبارة عن منفعة مالية أو إثراء يتحقق لصالح شخصي بمقتضى عمل إرادي مشروع ( تصرف قانونين أو عمل مادي ) يصدر من المفقتر . وسبب ” الإضافة إلى الذمة ” هو عبارة عن الغرض المباشر الذي يرمي إلى تحقيه المضيف للذمة . ويحدد هذا السبب وفقاً للفقه الألماني على أساس تقسيم ثلاث للسبب موروث عن دعاوي الإثراء في القانون الروماني ، يكون السبب بمقتضاه إما الوفاء ( causa solvendi ) أو الادانة ( causa credendi ) اوالتبرع ( causa donandi ) . والادانة هي التصرف بمقابل ، وهذا المقابل إما أن يكون موضوعه استرداد ما أعطاه المضيف أو استرداد قيمته كما في القرض وفي الوكالة ، وإما أن يكون موضوعه شيئاً آخر يحدد بالاتفاق كما في العقود الملزمة للجانبين فالبائعيحصل على دين بالثمن في مقابل التزامه بنقل ملكية المبيع . ولا يختلط سبب الإضافة إلى الذمة بالباعث عليها . ويلاحظ الفقهي الألماني فون تور أنه ” لا يجب الخلط بين السبب القانونين والاغرراض البعيدة التي يرمى إليها المضيف ، أي البواعث ( Beweggrunde ) التي تدفعه إلى تنفيذ التزامه أو إلى الحصول على مقابل أو إلى الهبة . فوراء كل سبب قانونين بواعث تختلف باختلاف الأحوال . فالهبة مثلا قد تتم بناء على عطف أو بسبب الرأي العام ، ولكن هذه البواعث لا تدخل في حسابنا كقاعدة عامة لتقدير وجود الإضافة ونتائجها القانونية إلا إذا كانت قد اشترطت في التصرف القانونين ” . وسنعود إلى هذه المسألة مرة أخرى عند الكلام في الإثراء بلا سبب وتحديد معنى السبب في الإثراء في القانون الألماني . ويكفينا هنا أن نشير إلى التقارب الواضح بين معنى السبب في النظرية التقليدية ومعنى سبب الإضافة إلى الذمة في الفقه الألماني .

أنظر أيضاً في نظرية مادية للسبب في الفقه الإيطالي ، على أساس أن السبب يرتبط بإرادة القانون لا بإرادة الأفراد وباعتبار أن لكل تصرف وظيفة قانونية فهذه الوظيفة هي السبب ، إلى رسالة الدكتور أبو عافية المشار إليها فقرة 36 .

 ( [3] ) وقد عبد الطريق أمام التقنين الألماني في إجازة الالتزام المجرد أن المؤتمر التاسع لفقهاء الألمان ، تحت تأثير إهرنج الفقيه الألماني المعروف ، اقر هذا الضرب من الالتزام .

 ( [4] ) أنظر في موضوع التصرف المجرد في القوانين الجرمانية كابيتان في السبب فقرة 85 – فقرة 86 وفقرة 165 – فقرة 174 – سالي في الالتزامات في القانون الاماني فقرة 260 – فقرة 266 – مذكرات الأستاذ ليفي اولمان ص 361 – ص 364 – فيفورنو فقرة 128 – ديموج 1 فقرة 91 و 2 فقرة 847 . ويربط ديموج نظرية الالتزام المجرد بنظرية الإرادة الظاهرة كما فعل الدكتور أبو عافية في رسالته المشار إليها ، فما دمنا نأخذ بالإرادة الظاهرة كما هي فلا شأن لنا بالغاية التي تسعى إليها هذه الإرادة ولا بالباعث الذي حركها ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 560 ) .

 ( [5] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 10 فبراير سنة 1931 م 43 ص 208 – وفي 4 يناير سنة 1933 م 45 ص 101 – وفي 17 مارس سنة 1936 م 48 ص 191 – وقارن حكما لمحكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1939 م 51 ص 361 قصرت فيه هذه القاعدة على الإنابة الكاملة دون الإنابة غير الكاملة ( وهي التي لا تنطوي على تجديد الدين ) ، أما القانون الجديد فنصه هو كما رأينا عام مطلق لا يميز بين الإنابة الكاملة والإنابة غير الكاملة . أنظر أيضاً الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 62 .

ويذهب الدكتور أبو عافية ( التصرف المجرد فقرة 61 ) إلى أن المناب لا يجوز له أيضاً أن يتمسك بالدفوع التي تكون للمنيب قبل المناب لديه ، فلو دفع المنيب الدين للمناب لديه فإن هذا لا يمنع المناب لديه أن يطالب المناب بالدين الذي التزم به ، ويرجع المنيب في هذه الحالة بدعوى الإثراء على المناب الديه . ونرى ، مع محكمة الاستئناف المختلطة ( أول يدسمبر سنة 1925 م 38 ص 78 ) التي انتقد الدكتور أبو عافية حكمها ، أن المنيب إذا دفع الدين للمناب لديه كان هذا رجوعا في الإنابة يستطيع المناب أن يتمسك به ، فإذا طالب المناب لديه بعد ذلك المناب بالدين ، جاز لهذا أن يدفع المطالبة بانقضاء الدين ، ولي في نص المادة 361 من القانون الجديد ما يحول دون هذا الدفع . ولكن إذا حول المناب لديه حقه قبل المناب إلى أجنبي ، بقى التزام المناب مجرداً بالنسبة إلى هذا الأجنبي – ذلك أن التصرف المجرد إرادة ظاهرة تجردت عن الإرادة الحقيقية وعن السبب ، وفقا لما يقضي به القانون لمصلحة يتواخها . فالقانون هو الذي يمسك بزمام التجريد ، فلا يبيحه إلا لضرورة ، وبقدر هذه الضرورة . ومن ثم تدرج التجريد تبعاً للقدر الذي تقتضيه الضرورة . وفي المثال السابق يزول التجريد بالنسبة إلى المناب لديه لأن الضرورة لا تقتضيه ، ويبقى بالنسبة إلى الأجنبي لأن الضرورة تستوجب بقاءه .

 ( [6] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 20 ابريل سنة 1930 م 42 ص 470 – الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 59 – فقرة 60 .

 ( [7] ) ويلاحظ أنا لشرائع التي تأخذ بالإرادة الظاهرة يغلب إلا تفسح مجالا واسعا لنظرية السبب ، وتكون فكرة السبب عندها فكرة مادية ، وتقر التصرف المجرد زراينا ذلك في القوانين الجرمانية ، وتقول الآن كلمة موجوزة عن الشريعة الإسلامية وعن القانون الإنجليزي .

فالشريعة الإسلامية تأخذ بالإرادة الظاهرة إلى مدى بعيد . ويظهر أن هذا هو الذي منع من تقدم نظرية السبب فيها مع إنها شريعة مشبعة بالروح الدينية والخلقية كالقانون الكنسي الذي هو المصدر الأول لنظرية السبب الحديثة . وإذا أمكن أن نستخلص من نصوص الفقه الإسلامي نظرية للسبب ، فهذه النظرية لا يمكن إلا أن تكون نظرية مادية . ويستطيع الباحث أن يستخلص من نصوص الفقه الإسلامي التمييز ما بين الغرض المباشر الذي قصد المتعاقدان الحصول عليه من العقد وبين الباعث له على التعاقد . فالباعث لا اثر له في صحة العقد إلا إذا ذكر صراحة وأصبح جزءاً من الاتفاق ( أنظر بحثاً في هذه المسألة في نظرية العقد للمؤلف فقرة 562 ) .

والقانون الإنجليزي كالشريعة الإسلامية نظرية السبب فيه نظرية مادية . والعقود عنده إما شكلية وهذه يكفي في صحتها الشكل وحده و وإما رضائية وهذه لا بد فيها من وجود اعتبار ( consideration ) وهو ما يقابل السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية ، أي السبب المادي الداخلي الذي لا يتغير من ويختلف ” الاعتبار ” عن ” السبب ” في أمرين : ( 1 ) الفكرة في الاعتبار ليست هي الغنم الذي حصل عليه الملتزم من وراء التزامه كما هو الأمر في السبب ، بل هو الغرم الذي تحمله الدائن حتى يحصل على التزام المدين ( 2 ) نية التبرع لا تصلح ” اعتباراً ” في القانون الإنجليزي وتصلح ” سبباً ” في النظرية التقليدية . ومن هنا كانت عقود التبرع في القانون الإنجليزي شكلية لخلوها من ” الاعتبار ” ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 561 ) .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

قوانين أردنية  مهمة :

قانون التنفيذ الأردني وفق أحدث التعديلات

قانون العقوبات الأردني مع كامل التعديلات 

قانون التنفيذ الأردني مع التعديلات

 قانون المخدرات والمؤثرات العقلية

القانون المدني الأردني

قانون أصول المحاكمات الجزائية

قانون الملكية العقارية الأردني

قانون الجرائم الإلكترونية

قانون محاكم الصلح

جدول رسوم المحاكم

قانون العمل الأردني

قانون البينات الأردني

قانون أصول المحاكمات المدنية

 

 

مواضيع قانونية مهمة :

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

جريمة النصب في القانون المغربي

الذم والقدح والتحقير والتشهير

انعدام الأهلية ونقصها 

صفة التاجر مفهومها وشروطها

جريمة إساءة الأمانة

أحدث نموذج عقد إيجار

عقد البيع أركانه وآثاره

 

 

 

نظرية السبب في القانون الحديث

نظرية السبب في القانون الحديث

261 – ترتيب الموضوع : انتقلت نظرية السبب كما رأينا في القانون الفرنسي القديم إلى قانون نابليون ، فبسطها الفقهاء الفرنسيون على النحو الذي رأيناه عند دوما وبوتييه . وهذه هي النظرية التقليدية في السبب . ولما كانت هذه النظرية عقيمة مجدبة ، إذ هي مشبعة بالفكرة الرومانية الضيقة كما قدمنا ، فقد انتصب لها خصوم اشداء فندوها وزعزعوا الثقة بها وكادوا أن يقضوا على فكرة السبب كركن من أركان اللاتلزام . واثارت هذه الخصومة لنظرية السبب التقليدية فقهاء آخرين قاموا ينتصرون لفكرة السبب في ذاتها ، سواء في صورتها التقليدية أو في صورة أخرى لها معدلة . ولكن القضاء في فرنسا كان بمعزل عن هذه الخصومات الفقهية ، وأخذ من جانبه يعود إلى النظرية الكنسية المخصبة وهي النظرية التي تفسر السبب بالباعث فتجعل للسبب معنى منتجاً فعالا . ومن ثم قامت النظرية الحديثة في السبب على أنقاض النظرية التقليدية ، قامت في أول أمرها على أكتاف القضاء فهو الذي عبد لها الطريق كما رينا ، ثم تبع القه القضاء في ذلك . وقد تلقى القانون المدني الجديد النظرية وهي في مرحلة متقدمة من مراحل تطورها ، فاستكمل حلقات التطور بفصل نظرية السبب عن نظرية الغلط فصلا تاماً وكانا من قبل يتلاقيان في منطقة مشتركة .

فنحن نتكلم : ( أولاً ) في النظرية التقليدية . ( ثانياً ) في النظرية الحديثة . ( ثالثاً ) في نظرية السبب بعد انتقالها إلى القانون المدني الجديد .

المطلب الأول

النظرية التقليدية في السبب

 262 – النصوص في القانون المدني الفرنسي وفي القانون المدني المصري القديم : تلقى قانون نابليون نظرية السبب كما بسطها دوما ، وانتقلت منه إلى الفقه الفرنسي . وبقى الفقهاء الفرنسيون يقررون هذه النظرية التقليدية طوال القرن التاسع عشر ( [1] ) . وسنرى ونحن نبسط ما قرروه إنهم لم يبتعدوا عما قرره دوما وبوتييه مما سبق بيانه .

وقد دخلت النظرية التقليدية في نصوص قانون نابليون على النحو الآتي :

نصت المادة 1131 من هذا القانون على أن الالتزام لا ينتج أي اثر إذا لم يكن مبنياً على سبب ( sans cause ) . أو كان مبنياً على سبب غير صحيح ( fausse cause ) ، أو على سبب غير مشروع ( cause illicite ) .

ونصت المادة 1132 على أن الاتفاق يكون صحيحاً ولو لم يذكر سببه .

ونصت المادة 1133 على أن السبب يكون غير مشروع إذا حرمه القانون ، أو إذا كان مخالفاً للآداب أو للنظام العام .

وقد نقل القانون المدني المصري القديم عن قانون نابليون هذه النصوص بعد أن أوجزها في نص واحد على الوجه الآتي :

نصت المادتان 94 / 148 من القانون المدني المصري القديم على أنه ” يشترط لصحة التعهدات والعقود أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً ” . والأصل الفرنسي لهذا النص العربي أدق ، فهو يقضي بأن ” الالتزام لا يوجد إلا إذا كان له سبب محقق مشروع ( [2] ) ” ، فجعل السبب شرطاً في وجود الالتزام لا في صحته فحسب .

ونتناول الآن النظرية التقليدية . فنتكلم أولاً في معنى السبب في هذه النظرية وفي الشروط التي يجب توافرها فيه . ثن نستعرض بعد ذلك الحجج التي تقدم بها خطوء السبب في تقيده ، والحجج التي تقدم بها أنصاره في تأييده .

1 – معنى السبب في النظرية التقليدية والشروط الواجب توافرها فيه

ا – تحديد معنى السبب في النظرية التقليدية

263 – السبب الإنشائي والسبب الدافع والسبب القصدي : تميز النظرية التقليدية بين السبب الإنشائي ( cause efficiente ) والسبب الدافع ( cause impulsive ) والسبب القصدي ( cause finale ) ( [3] ) .

فالسبب الإنشائي هو مصدر الالتزام . وقد عرفنا أن مصادر الالتزام هي العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون . والسبب بهذا المعنى لا يعنينا هنا ، ويجب أن نستبعده .

والسبب الدافع هو الباعث الذي دفع الملتزم إلى أن يرتب في ذمته الالتزام . فمن يشتري منزلا قد يكون الدافع له على الشراء والالتزام بدفع الثمن هو أن يستغل المنزل ، أو أن يخصصه لسكناه ، أو أن يجعل منه محلا لعمله ، أو أن يديره للعهارة ، أو أن يجعل منه نادياً للمقارمة ، ألخ ألخ . ونرى من ذلك أن الباعث يجمع الخصائص الثلاث الآتية : ( 1 ) هو شيء خارجي عن العقد ( extrinseque ) ، فلا يذكر في الاتفاق ضرورة ، ولا يستخلص حتما من الالتزام . ( 2 ) هو شيء ذاتي للملتزم ( subjectif ) ، إذ يرجع إلى نواياه وما يتأثر به من دوافع . ( 3 ) هو شيء متغير ( variable ) ، لا في كل نوع من العقود فحسب ، بل في كل عقد علىحدة ، فالباعث للمشتري في عقد غير الباعث للمشتري في عقد آخر . ولما كان الباعث لا يمكن ضبطه على وجه التحديد ، فإن النظرية التقليدية تذهب إلى أنه لا تأثير له في وجود العقد ولا في قيام الالتزام . فمهما كان هذا الباعث شريفاً أو غير شريف ، متفقاً مع النظام العام أو مخالفاً له ، فإن العقد صحيح والالتزام قائم .

والسبب القصدي – وهو السبب الذي تقف عنده النظرية التقليدية واذ اطلقت كلمة السبب عنته بهذه الكلمة – يعرف عادة بأنه هو الغاية المباشرة ( fin directe ) أو الغرض المباشر ( but immediate ) الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه . فيختلف السبب عن الباعث في أن السبب هو أول نتيجة يصل إليها الملتزم ( causa proxima ) ، أما الباعث فغاية غير مباشرة ( causa remota ) تتحقق بعد أن يتحقق السبب ، و لا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء الالتزام .

264 – السبب في الطوائف المختلفة للعقود : وتستعرض النظرية التقليدية الطوائف المختلفة للعقود لتحدد السبب – ويفهم دائماً بمعنى السبب القصدي – في كل طائفة منها ، على النحو الذي جرى عليه دوما وبوتييه .

ففي العقود الملزمة للجانبين سبب التزام كل من المتعاقدين هو التزام الآخر . مثل ذلك عقد البيع ، يلتزم البائع فيه بنقل ملكية المبيع ، وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد البائع أن يحققه من وراء التزامه بنقل ملكية المبيع – هو التزام المشتري بدفع الثمن . ويلتزم المشتري بدفع الثمن ، وسبب هذا الالتزام – أي الغرض المباشر الذي قصد المشتري أن يحققه من وراء التزامه بدفع الثمن – هو التزام البائع بنقل ملكية المبيع . وقل مثل ذلك في العقود الأخرى الملزمة للجانبين ، كالمقايضة والإيجار وعقد المقاولة وعقد العمل .

وفي العقود الملزمة لجانب واحد ، إذا كان العقد عينياً ، قرضاً كان أو عارية أو وديعة أو رهن حيازة ( [4] ) ، يكون سبب الالتزام المتعاقد الملتزم هو تسلمه الشيء محل التعاقد . فالمقترض يلتزم برد القرض لأنه تسلمه ، وهذا هو الغرض المباشر الذي قصد إلى تحقيقه من وراء التزامه .

وإذا كان العقد الملزم لجانب واحد عقداً رضائياً ، كالوعد بالبيع ، فالظاهر أن سبب الالتزام هو إتمام العقد النهائي ، وهو الغرض المباشر الذي قصد إلى تحقيقه ، وهو بعد سبب محتمل قد يتحقق وقد لا يتحقق ( [5] ) .

وفي عقود التبرع السبب في التزام المتبرع هو نية التبرع ذاتها . فالمتبرع يقصد من وراء التزامه غرضاً مباشراً هو إسداء يمد للموهوب له ، وهذا هو السبب في تبرعه .

265 – خصائص السبب : ويتبين مما تقدم أن خصائص السبب في النظرية التقليدية هي عكس خصائص الباعث . فالسبب شيء داخلي في العقد ( intrinseque ) يستخلص حتما من نوع العقد ومن طبيعة الالتزام ذاته . وهو شيء موضوعي ( objectif ) لا تؤثر فيه نوايا الملتزم . وهو غير متغير ( invariable ) ، فيبقى واحداً في نوع واحد من العقود ، ولا يتغير بتغير البواعث والدوافع .

وهذه الخصائص الثلاث هي عين الخصائص التي رأيناها لصيقة بالسبب في الفكرة الرومانية القديمة .

266 – قيام السبب من وقت تكوين العقد إلى حين تنفيذه : وتحرص النظرية التقليدية على أن تقرر أن قيام السبب واجب من وقت تكوين العقد إلى حين تنفيذه . فإذا قام السبب عند تكوين العقد ، ثم انقطع قبل التنفيذ ، سقط الالتزام . وتظهر أهمية هذا الحكم في العقود الملزمة للجانبين . فإن هذه العقود تتميز بأمور ثلاثة : ( 1 ) إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يمتنع عن تنفيذ ما ترتب في ذمته من التزام ، وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ . ( 2 ) إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقدين الآخر أن يطلب فسخ العقد ، وهذه هي نظرية الفسخ . ( 3 ) إذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لقوة قاهرة تحمل هو تبعة هذه الاستحالة وسقط التزام المتعاقد الآخر ، وهذه هي نظرية تحمل التبعة . وسنعرض لهذه النظريات بالتفصيل في مواضعها . ويكفي أن نشير هنا إلى أن أصحاب النظرية التقليدية يبنون هذه النظريات الثلاث على فكرة السبب ووجوب بقائه قائماً إلى أن يتم تنفيذ العقد . فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه ، أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة ، فإن التزام المتعاقد الآخر ينقطع سببه ، ومن ثم يستطيع هذا المتعاقد أن يمتنع عن تنفيذ التزامه ، أو أن يطلب فسخ العقد ، أو أن يجعل المتعاقد الذي استحال تنفيذ التزامه يحمل تبعة هذه الاستحالة بعد سقوط الالتزام الذي انقطع سببه ( [6] ) .

ب – الشروط الواجب توافرها في السبب

267 – شروط ثلاثة : يخلص من النصوص التي أوردناها في القانون المدني الفرنسي وفي القانون المدني المصري القديم أن السبب يجب أن تتوافر فيه شروط ثلاثة : ( 1 ) أن يكون موجوداً . ( 2 ) وأن يكون صحيحاً . ( 3 ) وأن يكون مشروعاً .

268 – وجود السبب : تقول النظرية التقليدية إن كل التزام يجب أن يكون له سبب . ووجود السبب ليس في الواقع شرطاً يجب توافره في شيء ، بل هو الشيء ذاته . وإنما يثار وجود السبب حتى يتقرر أن كل التزام لا يكون له سبب يكون التزاماً غير قائم .

ويغلب في السبب غير الموجود أن يكون سبباً موهوماً وقع غلط في وجوده ، فظن المتعاقدان أن موجود وهو غير موجود . ولكن السبب الموهوم لا يدخل في دائرة هذا الشرط الأول ، بل يدخل في دائرة الشرط الثاني كما سنرى . أما هنا فالمراد بالسبب غير الموجود أن يكون المتعاقدان على بينة من أنه غير موجود ، أي غير واهمين في وجوده . ويصح التساؤل إذن كيف يقدم المتعاقدان على التعاقد لسبب غير موجود وهما عالمان بذلك ؟ تجيب النظرية التقليدية أن هذا يمكن أن يتحقق عند التعاقد وبعد التعاقد .

فهو يتحقق عند التعاقد في فروض مختلفة نذكر منها فرضين : ( 1 ) قد يكره أحد المتعاقدين على إمضاء إقرار بمديونيته وهو غير مدين ، أي لسبب لا وجود له ، كقرض لم يتم ، فيكون كل من المتعاقدين على بينة من أن سبب المديونية غير موجود . وفي هذه الحالة يكون العقد الذي يقر فيه المتعاقد المكره بمديونيته باطلا لانعدام السبب ، ولا يكفي أن يقال أنه قابل للإبطال لما وقع فيه من إكراه ، بل قد لا يكون هناك إكراه ويصدر الإقرار بالمديونية قبل تسلم القرض ، ثم يثبت المقر أنه لم يتسلم القرض أصلاً ، فيكون الإقرار في هذه الحالة باطلا لانعدام السبب . ويستقيم الفرض حتى لو اعتبر الإقرار إرادة منفردة لا عقداً ، فإذن السبب ركن في كل التزام إرادي ولو لم يكن الزاماً عقدياً . ( 2 ) يكون السبب غير موجود ، دون أن يكون هناك وهم أو إكراه ، فيما يسمى بسند المجاملة ( effet de complaisance ) . وصورته أن يلتزم شخص نحو آخر التزاماً صورياً ، فيمضي سنداً لمصلحته ، ويقصد من ذلك أن يعطي الدائن الصوري سنداً يحصل على قيمته من طريق تحويله ، حتى إذا حل ميعاد دفع السند قام الدائن الصوري بتوريد قيمته إلى المدين ، فيدفعها هذا لحامل السند . وبذلك يستطيع الدائن الصوري أن يحصل على ما هو في حاجة إليه من النقود إلى أجل معلوم ، لا من مدينه بالذات ، بل بفضل إمضاء هذا المدين على سند المجاملة . ولا يحتج بانعدام السبب على حامل السند إذا كان حسن النية ، ولكن في العلاقة ما بين المدين ودائنه الصوري يستطيع الأول أن يتمسك ببطلان السند لانعدام السبب ( [7] ) .

ويتحقق انعدام السبب بنوع خاص بعد التعاقد . ويقع ذلك في العقود الملزمة للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة ، فإن سبب التزام المتعاقد الآخر يصبح غير موجود بعد أن كان موجوداً عند التعاقد ، وانعدام السبب بعد وجوده في هذه الأحوال هو الذي يبرر نظرية الدفع بعدم التنفيذ ونظرية الفسخ ونظرية تحمل التبعة على ما بينا .

269 – صحة السبب : ويجب أيضاً أن يكون السبب صحيحاً . فالسبب غير الصحيح ( fausse cause ) لا يصلح أن يقوم عليه التزام ، ويرجع عدم صحة السبب إلى أحد أمرين : ( 1 ) إما لأن السبب الظاهر – وهو السبب غير الصحيح – هو سبب موهوم أو مغلوط ( cause erronee ) ( 2 ) وإما لأن السبب الظاهر هو سبب صوري ( cause simulee ) .

والأمثلة على السبب الموهوم كثيرة : وارث يتخارج مع شخص يعتقد أنه وارث معه وهو ليس بوارث ، فيعطيه مبلغاً من النقود حتى يتخلى عن نصيبه في الميراث ، فهذا التخارج باطل لأن سببه موهوم . وارث يمضي إقرارا بدين على التركة ويتبين أن الدائن كان قد استوفى الدين من المورث ، فهذا الإقرار باطل لأن سببه موهوم . وارث يتعهد لموصى له بعين في التركة أن يعطيه مبلغاً من المال في نظير نزوله عن الوصية ، ويتبين بعد ذلك أن الوصية باطلة أو أن الموصى قد عدل عنها ، فتعهد الوارث باطل لأن سببه موهوم . مدين يتفق مع دائنه على تجديد الدين ، فيتبين أن الدين القديم باطل أو أن الدائن قد استوفاه ، فالتجديد باطل لأن سببه موهوم .

بقى السبب الصوري ، والعقد الذي يقوم على سبب صوري لا يكون باطلا لصورية السبب ، فإن الصورية في ذاتها ليست سبباً في البطلان . ولكن إذا اثبت المدين صورية السبب ، فعلى الدائن أن يثبت السبب الحقيقي . ويكون الالتزام قائماً أو غير قائم تبعاً لهذا السبب الحقيقي . فإن كان هذا السبب موهوماً سقط الالتزام لأن السبب الحقيقي موهوم لا لأن السبب الظاهر صوري . وإن كان السبب الحقيقي غير مشروع ، وقد أخفى تحت ستار سبب مشروع كما هو الغالب ، سقط الالتزام أيضاً ، لا لصورية السبب الظاهر ، بل لعدم مشروعية السبب الحقيقي . أما إذا كان السبب الحقيقي مشروعاً غير موهوم ، فإن الالتزام يقوم بالرغم من صورية السبب الظاهر ( [8] ) .

270 – مشروعية السبب : ويجب أخيراً أن يكون السبب مشروعاً . والسبب المشروع هو الذي لا يحرمه القانون ولا يكون مخالفاً للنظام العام ولا للآداب ( [9] ) . وقد بينا معنى المخالفة للقانون أو للنظام العام أو للآداب عند الكلام في المحل غير المشروع . ونبين هنا أن مشروعية السبب ، عند أصحاب النظرية التقليدية ، شرط متميز عن مشروعية المحل ، فقد يكون المحل مشروعاً والسبب غير مشروع . ويتحقق ذلك في فروض مختلفة ، نذكر منها لفروض الثلاثة الآتية :

 ( أولاً ) إذا تعهد شخص لآخر بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود يأخذه منه ، فإن التزام الشخص الآخر بدفع النقود محله مشروع ، ولكن سببه – وهو التزام الشخص الأول بارتكاب الجريمة – غير مشروع . فلا يقوم هذا الالتزام ، لا لعدم مشروعية المحل ، بل لعدم مشروعية السبب .

 ( ثانياً ) كذلك إذا تعهد شخص لآخر بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود ، فإن التزام كل من المتعاقدين محله مشروع . فقد تعهد الأول بعدم ارتكاب الجريمة ، وتعهد الثاني بدفع مبلغ من النقود ، وكلا المحلين مشروع . ولكن سبب التزام الأول بالامتناع عن ارتكاب الجريمة هو التزام الثاني بدفع النقود ، وهذا سبب غير مشروع . وسبب التزام الثاني بدفع النقود هو التزام الأول بالامتناع هو ارتكاب الجريمة ، وهذا أيضاً سبب غير مشروع . ومن ذلك نرى أن كلا من الالتزامين لا يقوم لعدم مشروعية السبب ، وهذا بالرغم من أن محل كل منهما مشروع . وكذلك الأمر في كل عقد يلتزم فيه شخص باجازة آخر ليحمله على الالتزام بما يجب عليه دون إجازة ، كالمودع يجيز المودع عنده حتى يرد الوديعة ، وكالمسروق منه يجيز السارق حتى يرد المسروق ، وكالمخطوف وله يجيز الخاطف حتى يرد الولد ، وكمن يخشى أذى دون حق من شخص يجيز هذا الشخص حتى يكف عنه أذاه .

 ( ثالثاً ) عقد الوساطة في الزواج ( courtage matrimonial ) هو أيضاً عقد سببه غير مشروع ، على أي ، وإن كان المحل مشروعاً . فإذا التزم شخص أن يدفع أجراً لوسيط يبحث له عن زوج يرضاه ، فإن كثيراً من الفقهاء ( [10] ) يقولون إن العقد غير مشروع لأنه يجعل الزواج ضرباً من التجارة . إلا أن محكمة النقض الفرنسية ميزت بين فرضين . فإذا اشترط الوسيط الأجر تم الزواج أو لم يتم ، كان هذا أجراً على العمل لا جائزة على النجاح ، فيكون العقد مشروعاً . أما إذا اشترط الأجر على إلا يأخذه إلا إذا تم الزواج ، فهذا هو الاتفاق الباطل ، لأن الوسيط في هذه الحالة قد يحمل على ركوب طرق من الغش والخديعة حتى يتم زواجاً قد لا يكون في مصلحة الزوجين أن يتم ، ولا مصلحة فيه إلا للوسيط يحصل على أجره الموعود ( [11] ) . والقضاء في مصر غير مستقر ، فقد قضت إحدى المحاكم الوطنية ( [12] ) ببطلان العقد ، لا سيما في بلد كمصر حيث يسهل على ” الخاطبة ” أن تخدع الزوج ، في أمر زوجته بسبب انعزال المرأة عن الرجل ( [13] ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة ( [14] ) بصحة العقد إذ أن الغرض الذي يرمى إليه مشروع ، فهو ييسر أمر الزواج ، وإذا وقع غش من الوسيط أمكن الرجوع عليه بالطرق القانونية . ونحن نؤثر الأخذ برأي محكمة النقض الفرنسية ، فيكون العقد صحيحاً إذا أخذ الوسيط أجراً على عمله تم الزواج أو لم يتم ، ويكون باطلا إذا لم يأخذ الأجر إلا إذا تم الزواج . فإذا أخذ بهذا الرأي كان الاتفاق مع الوسيط على إعطائه أجراً إذا نجحت وساطته اتفاقاً غير مشروع . وعدم المشروعية هنا يرجع إلى السبب لا إلى المحل ، فإن التزام كل من الفريقين محله مشروع ، أحدهما يلتزم بإعطاء الأجر والثاني يلتزم بالعثور على زوج صالح ، ولكن سبب كل من الالتزامين غير مشروع ، لأنه مما يخالف الآداب والنظام العام أن يلتزم الوسيط بتزويج الطرف الآخر في مقابل اجر ، وأن يلتزم الطرف الآخر بإعطاء الوسيط أجراً في مقابل هذا الزواج .

2 – خصوم السبب وأنصاره .

ا – خصوم السبب

271 – الهجوم على النظرية التقليدية : منذ أن استقرت النظرية التقليدية ، منقولة عن دوما وبوتييه على النحو الذي بسطناه ، بقيت مبعثاً لقلق الفقهاء ، يرون فيها ضيق الأفق وقصور المدى وعقم الإنتاج . وأول من جاهر من الفقهاء بذلك كان الفقيه البلجيكي إرنست ( Ernst ) وكان أستاذاً في جامعة ليبج ، كتب مقالا في سنة 1826 في مجلة ( Bibliotheque du jurisconsulte et do publiciste ) ( [15] ) يبين فيه أن السبب في النظرية التقليدية ليس ركنا متميزاً ، فهو يختلط إما بالمحل في العقود الملزمة للجانبين ، وإما بالرضاء في عقود التبرع ، ويستخلص من ذلك أن السبب لا ضرورة له ، وتغني عنه أركان الالتزام الأخرى . ثم هاجم النظرية بعد ذلك لوران ( Laurent ) ( [16] ) وكورنيل ( cornil ) ( [17] ) ، وهما أيضاً فقيهان بلجيكيان . وتابعهما عدد من الفقهاء الفرنسيين ، هاجموا النرظية مهاجمة عنيفة في رسائلهم ( [18] ) .

ولكن الحملة على نظرية السبب لفتت النظر بنوع خاص عندما انحاز بلانيول إلى خصوم السب ( [19] ) ، ورد الأستاذان بودري وبارد صدرى هذه الحملة ( [20] ) . وكذلك فعل دابان ( Babin ) ( [21] ) ووالتون ( [22] ) .

ونقف عند نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية ، ففيه خلاصة واضحة للحملات التي قام بها خصوم السبب ، وكان هو المعول الفعال في هدمها .

272 – نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية : يقول بلانيول إن نظرية السبب التقليدية نظرية غير صحيحة ، ثم هي غير ذات فائدة .

أما أنها غير صحيحة ، فذلك يظهر إذا استعرضنا السبب في فروضه الثلاثة : العقد الملزم للجانبين والعقد العيني وعقد التبرع . ففي العقد الملزم للجانبين لا يجوز القول ، كما تزعم النظرية التقليدية ، إن سبب أحد الالتزامين المتقابلين هو الالتزام الآخر ، فإن هذا استحالة منطقية ، ذلك أن الالتزامين يولدان في وقت واحد من مصدر واحد هو العقد ، فلا يمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر . لأن السبب يتقدم المسبب ، وهما قد نشأ معاً كما رأينا . وفي العقد العيني يقولون إن سبب الالتزام هو تسليم العين ، ولكن التسليم ليس إلا المصدر الذي كون العقد فأنشأ الالتزام ، فيختلط هنا السبب بالمصدر ويصبحان شيئاً واحداً . وفي عقد التبرع يقولون إن سبب الالتزام هو نية التبرع ، وهذا قول خال من المعنى ، وإلا فأية قيمة لنية التبرع في ذاتها إذا لم تقرن بالعوامل التي دفعت إليها !

وأما أن النظرية غير ذات فائدة ، فلأننا نستطيع الاستغناء عنها بشيء آخر . ففي العقود الملزمة للجانبين يكفي أن نقول إن الالتزامين المتقابلين مرتبطان أحدهما بالاخر بحيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني ، وتغني فكرة الارتباط في هذه العقود عن فكرة السبب . وفي العقود العينية وعقود التبرع انعدام السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية هو انعدام التسليم في العقد العيني وانعدام نية التبرع في الهبة ، وهذا معناه انعدام العقد ذاته ، فلسنا إذن في حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب مادام العقد ذاته غير موجود .

ب – أنصار السبب

273 – الدفاع عن فكرة السبب : أما أنصار السبب فكثيرون . منهم من يدافع عن النظرية التقليدية بعد تحويرها ، وعلى رأس هؤلاء كابيتان في كتابه المعروف ” السبب في الالتزامات ” ( [23] ) . ومنهم من يدافع عن فكرة السبب في ذاتها ، ولكنه يهجر في الدفاع عنها النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة التي وضع القضاء أسسها على ما سنرى .

ونبسط هنا دفاع كابيتان عن النظرية التقليدية ، ثم نشير في ايجاز إلى بعض الفقهاء الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة .

274 – دفاع كابيتان عن نظرية السبب التقليدية : يمكن القول إن كابيتان هو عميد أنصار النظرية التقليدية للسبب . ولكنه هو في صدد الدفاع عنها قد حورها تحويراً جوهرياً في بعض نواحيها .

فعند كابيتان أن السبب في العقد الملزم للجانبين ليس هو الالتزام المقابل ذاته ، بل هو تنفيذ هذا الالتزام ( [24] ) . ويقول ، رداً على ما أخذه بلانيول على النظرية التقليدية من أن الالتزام الواحد لا يمكن أن يكون سبباً ومسبباً ، إن تنفيذ الالتزام هو السبب فلا يجوز الاعتراض بعد ذلك بأن الالتزام هو السبب والمسبب . ثم يضيف إلى ذلك أنه حتى لو فرض طبقاً للنظرية التقليدية أن سبب الالتزام هو الالتزام المقابل ذاته ، فلا يصح أن يقال مع ذلك إن الشيء الواحد يعتبر سبباً ومسبباً ، إلا إذا فهم السبب بمعنى ” السبب الإنشائي ” ، فعند ذلك يستحيل منطقياً أن يكون الشيء منشئاً لشيء آخر وناشئاً عنه في أن واحد . ولكن السبب هنا معناه ” السبب القصدي ” أي الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه ، ويسهل مع هذا المعنى أن نفهم أن الغرض الذي قصد إليه أحد المتعاقدين من وراء التزامه هو التزام المتعاقد الآخر بالذات ، فكل من المتعاقدين قد التزم حتى يلتزم الآخر ، ولا يكون في هذا خروج على المنطق .

أما الالتزام الذي ينشأ من عقد عيني فسببه هو تسليم الشيء كما تقرر النظرية التقليدية . وهذا صحيح في نظر كابيتان في عقود عينية ثلاثة هي القرض والعارية ورهن الحيازة . فإن هذه العقود إذا كانت عينية من حيث الصياغة ، فهي من حيث طبيعتها عقود رضائية ملزمة للجانبين . فالمقرض والمقترض مثلا يتفقان على القرض ، ويتم العقد بالاتفاق ، فيلتزم المقرض بتسليم القرض كما يلتزم المقترض برد مثله . ومن هنا نرى أن التسليم ، إذا رجعنا إلى طبيعة العقد ، ليس هو حتما السبب المنشيء للالتزام ، بل هو الغرض الذي يسعى إليه المقترض من وراء التزامه برد الشيء . فلا يختلط في هذه العقود الثلاثة ” السبب الإنشائي ” و ” السبب القصدي ” كما يزعم خصوم نظرية السبب زولا يبقى من العقود العينية إلا الوديعة . وهنا يسلم كابيتان أن الوديعة بطبيعتها عقد عيني ملزم لجانب واحد إذا كانت بغير اجر ، ويرى أن سبب التزام المودع عنده ليس هو تسليم الشيء ، إذ يختلط بذلك السبب الإنشائي بالسبب القصدي ، بل هو رغبة المودع عنده ، وقد قبل أن يحفظ الشيء دون مقابل ، في أن يسدي جميلا للمودع . أما إذا كانت الوديعة باجر فقد أصبحت عقداً ملزماً للجانبين ، وصار سبب كل التزام هو تنفيذ الالتزام الآخر ( [25] ) .

أما في عقود التبرع ، فسبب الالتزام هو نية التبرع ذاتها ( animus donandi ) كما تقرر النظرية التقليدية . ولا تختلط هذه النية بالرضاء كما يقول خصوم السبب . فإن إرادة الواهب يمكن تحليلها على عنصرين : العنصر الأول هو إرادته أن يلتزم ، وهذا هو الرضاء . والعنصر الثاني هو إرادته أن يكون هذا الالتزام دون مقابل على سبيل التبرع ، وهذا هو السبب يتميز عن الرضاء كما نرى . والدليل على ذلك أن العنصر الأول ، وهو الرضاء بالالتزام ، قد يثبت وجوده دون أن يثبت وجود السبب وهو نية التبرع ، كما إذا كتب شخص سنداً بدين في ذمته لآخر ، ثم استطاع أن يثبت أن هذا الدين لا وجود له ، فإنه يبقى بعد ذلك أن يثبت الدائن نية التبرع في جانب المدين حتى يستوفى منه قيمة السند . فهذا مثل نرى فيه رضاء المدين بالالتزام ثابتاً دون أن تكون نية التبرع عنده ثابتة . وعلى أن كابيتان لا يقف عند نية التبرع بل يجاوزها إلى الباعث الدافع فيجعله هو السبب في حالتين : ( 1 ) التبرع إذا اقترن بشرط يتبين أنه هو الذي دفع المتبرع إلى تبرعه ، كما إذا وهب شخص مالا لجمعية خيرية واشترط على الجمعية أن تنشيء بهذا المال مستشفى أو ملجأ ، فإن سبب الهبة في هذه الحالة لا يكون نية التبرع بل هو القيام بالشرط الذي اقترن به التبرع . ( 2 ) الوصية حيث لا توجد إلا إرادة واحدة هي إرادة الموصى ، فلا يجوز الوقوف فيها عند نية التبرع ، بل إن الباعث الذي دفع الموصى إلى تبرعه هو الذي يجب اعتباره سبباً للوصية ، وفي هاتين الحالتين يسلم كابيتان باختلاط الباعث بالسبب .

ومن ذلك نرى أن كابيتان أدخل تحويراً في النظرية التقليدية ، حيث يجعل الباعث يختلط بالسبب في الحالتين المتقدمتين ، وحيث يحدد السبب في العقد الملزم للجانبين بأنه هو تنفيذ الالتزام لا وجوده ، وحيث يحدد السبب في عقد الوديعة غير المأجورة بأنه نية التبرع عند حافظ الوديعة . ولكنه مع ذلك يحتفظ بجوهر النظرية التقليدية ، فيستبقى التمييز بين السبب والباعث ولا يخلط بينهما إلا في فروض نادرة ( [26] ) ، ويجعل المعيار في تحديد السبب موضوعياً لا ذاتياً ، فيكون السبب عنده شيئاً داخلا في العقد لا منفصلا عنه ، وهو واحد لا يتغير في أي نوع من العقود .

275 – أنصار السبب الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة : وإلى جانب كابيتان قام فقهاء يدافعون عن فكرة السبب ، وينادون بوجوب الاحتفاظ بها ، ويخالفون بذلك بلانيول وغيره من خصوم السبب الذين يقولون بوجوب حذف هذه الفكرة من القانون .

ولكن هؤلاء الفقهاء الذين ينتصرون للسبب ، ومن أبرزهم جوسران وريبير وديموج وبنكاز ، لا يدافعون عن السبب كما هو مبسوط في النظرية التقليدية ، بل يتوسعون فيه ويخلطونه بالباعث ، ويهجرون النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة التي وضع أساسها القضاء الفرنسي ، والتي نتولى الآن بسطها .

المطلب الثاني

النظرية الحديثة في السبب

276 – وجوب التوسع في تحديد السبب : لم يرض القضاء ، وهو الذي يواجه الحياة العملية ، عن النظرية التقليدية في السبب . فهي نظرية ضيقة عقيمة لا غناء فيها . وسار في طريق غير طريق الفقه التقليدي ، وتوسع في تحديد السبب ، فجعله هو الباعث الدافع إلى التعاقد . وقد عاد القضاء بذلك عن غير قصد إلى نظرية السبب عند الكنسيين ، لأنها هي النظرية التي تنتج في العمل . وما لبث الفقه الحديث أن انضم إلى القضاء في نظريته الجديدة ، إذ أدرك مدى ما فيها من خصوبة ومرونة . ولم يكن بد من أن تقترن الإرادة بالباعث الذي يحركها – وهذا هو التصرف المسبب وهو الأصل والقاعدة – أو أن تتجرد عن هذا الباعث . وهذا هو التصرف المجرد ولا يرد إلا على سبيل الاستثناء .

فنحن نتكلم إذن في مسائل ثلاث : ( 1 ) استبعاد النظرية التقليدية . ( 2 ) الأخذ بالنظرية الحديثة وهي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد . ( 3 ) التصرف المجرد ( acte abstrait ) .

1 – استبعاد النظرية التقليدية

277 – العيب الجوهري في النظرية التقليدية : رأينا أن الصياغة الرومانية الشكلية هي التي ساهمت كثيراً في تكييف نظرية السبب التي نقلها دوما عن الفقهاء المدنيين فأصبحت هي النظرية التقليدية . والعيب الجوهري في هذه النظرية ليس في إنها غير صحيحة . فهي ، حتى لو كانت صحيحة ، عقيمة على كل حال . وهي لا تضيف شيئاً إلى الثروة القانونية ، إذ هي تحدد السبب في أنواع العقود المختلفة تحديداً آلياً . وتتطلب فيه شروطاً ثلاثة . ونستعرض هذه الشروط مطبقة على السبب في صوره المختلفة ، لنثبت أن السبب بهذا المعنى التقليدي الضيق يمكن الاستغناء عنه دون عناء .

278 – كيف نستغني عن السبب الموجود : تحرص النظرية التقليدية على أن تشترط وجود السبب ، وتستخلص من ذلك أن السبب إذا لم يكن موجوداً فإن الالتزام لا يقوم . وتأتي لذلك بمثلين : مثل من أكره على إمضاء التزام ليس له سبب ، ومثل من امضى سند مجاملة عن بينة واختيار .

فإذا اكره شخص على إمضاء سند لسبب لا وجود له ، كقرض لم يتم ، فإن العقد يكون باطلا . ولا يكفي هنا استظهار الإكراه ، فإنه يقتصر على جعل العقد قابلا للإبطال بينما العقد باطل كما قدمنا . ولكن على أي أساس يقوم بطلان العقد ؟ تقول النظرية التقليدية إن الأساس هو انعدام السبب ، إذ الالتزام بالمديونية سببه القرض والقرض لم يتم . على أنه من اليسير أن نصل إلى النتيجة ذاتها عن طريق غير طريق السبب . ذلك إننا إذا اعتبرنا السند تصرفاً صادراً عن إرادة منفردة ، فهو التزام بدفع مبلغ واجب بعقد القرض ، ولما كان هذا المبلغ لا وجود له لأن القرض لم يتم ، فمحل الالتزام معدوم ، ويسقط الالتزام لا لانعدام السبب بل لانعدام المحل . وإذا اعتبرنا السند هو عقد القرض ذاته ، فالتزام المقترض لا يقوم هنا أيضاً لأنه لم يتسلم مبلغ القرض ، ولا بد من أن يتسلم المقترض مبلغ القرض حتى يلتزم برده ، إما لأن القرض عقد عيني لم يتم بالتسليم ، وإما لأن القرض عقد رضائي ( وفقاً للقانون الجديد ) لم يقم فيه المقرض بتنفيذ التزامه ( [27] ) . وفي الحالين يسقط التزام من أمضى السند ، لا لانعدام السبب ، بل لعدم انعقاد القرض أو لعدم تنفيذ الالتزام المقابل .

أما إذا أمضى شخص سند مجاملة لدائن صوري ، فإن قواعد الصورية هنا تكفي وتغنينا عن نظرية السبب . فالسند الصوري . والدين لا وجود له فيما بين الطرفين . أما بالنسبة إلى الغير ( حامل السند ) فيؤخذ بالعقد الظاهر .

على إننا إذا تركنا هذه الأمثلة التفصيلية جانباً ، وأستعرضنا طوائف العقود المختلفة ، زدنا يقيناً أن السبب بالمعنى التقليدي يسهل الاستغناء عنه .

فالالتزام في العقد الملزم للجانبين سببه ، كما تقوم النظرية التقليدية ، الالتزام المقابل . ولكن ما أيسر علينا أن نستبدل بفكرة السبب هذه فكرة الارتباط التي قال بها بلانيول . بل لعل فكرة الارتباط من الناحية الفنية أدق من فكرة السبب . ذلك أن انعدام السبب جزاؤه البطلان كما هو معروف ، فإذا انعدام السبب عند تكوين العقد أو بعد تكوينه كان من الواجب أن يكون الجزاء واحداً في الحالتين . ولكننا نرى أن العقد يبطل في الحالة الأولى ويفسخ في الحالة الثانية ، وفي هذا التفريق عيب فني واضح . أما فكرة الارتباط فأكثر مرونة من فكرة السبب . وهي تسمح بان نقول بالبطلان إذا انعدم أحد الالتزامين المتقابلين عند تكوين العقد ، إذ منطق الارتباط يقضي بأن العقد لا يوجد . وتسمح فكرة الارتباط في الوقت ذاته أن نقول إن نقول إن العقد ينقضي بعد وجوده – أن يفسخ – إذا انقطع أحد الالتزامين المتقابلين بعد أن واجد .

أما في العقود العينية وفي التبرعات فالنظرية التقليدية أقل تماسكاً . إذ تقول هذه النظرية إن العقد العيني سببه التسليم ، فإذا لم يتم التسليم لم يقم الالتزام لانعدام سببه . ومن السهل هنا أن يقال إن الالتزام لا يقوم ، لا لانعدام السبب ، بل لعدم انعقاد العقد العيني . وتقول النظرية التقليدية إن السبب في التبرعات هو نية التبرع ، فإذا لم تكن هذه النية موجودة لم يقم التزام المتبرع لانعدام السبب . ولكن متى ثبت أن المتبرع قد رضى أن يتبرع ، فرضاؤه يتضمن حتمانية التبرع . فإذا تبين أن هذه النية منعدمة ، فذلك لا يكون إلا لأن الرضاء بالتبرع منعدم ، وتكون الهبة باطلة في هذه الحالة لانعدام الرضاء لا لانعدام السبب .

279 – كيف تستغنى عن السبب الصحيح : ومن السهل أيضاً أن تستغني عن السبب الصحيح كما استغنينا عن السبب الموجود . فالسبب غير الصحيح ، كما رأينا ، إما سبب موهوم أو سبب صوري .

وإذا استعرضنا أمثلة السبب الموهوم ، وجدنا أنه يمكن الاستغناء فيها جميعاً عن نظرية السبب بنظرية المحل . فالشخص غير الوارث الذي يتخارج مع وارث يتعامل في حق معدوم . وهذا هو حال دائن التركة الذي يحصل على إقرار بالدين بعد أن استوفاه ، وحال الموصي له الذي يتعامل في الموصى به إذا كانت الوصية باطلة أو كان الموصى قد عدل عنها ، وحال الدائن الذي يجدد ديناً قديماً بعد أن يستوفيه .

أما السبب الصوري فقد رأينا أنه لا يبطل العقد إلا إذا كان يخفي سبباً موهوماً أو سبباً غير مشروع . وقد فرغنا من السبب الموهوم ، فننتقل الآن إلى السبب غير المشروع .

280 – كيف تستغني عن نظرية السبب المشروع : ومن السهل أن نستغنى عن السبب المشروع في العقود الملزمة للجانبين بفكرة الارتباط التي قدمناها . فمن يتعهد بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود لا يقوم التزامه لعدم مشروعية المحل ، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام غير مشروع . ومن يتعهد بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود لا يقوم التزامه لاستحالة المحل ، إذ هو لا يستطيع إنشاء التزام قد وجد بحكم القانون قبل هذا الإنشاء ، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام مستحيل . والتوسيط الذي يتعهد بالنجاح في العثور على زوج صالح في مقابل مبلغ من النقود قد تعهد بأمر غير مشروع لا يتفق مع الآداب ، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام غير مشروع .

أما في العقود العينية والتبرعات ، فإن اشتراط مشروعية السبب غير مفهوم . فالسبب في العقود العينية هو التسليم ، ولا يتصور أن يكون التسليم غير مشروع إلا إذا وقع على محل غير مشروع ، وعند ذلك لا ينعقد العقد لعدم مشروعية المحل لا لعدم مشروعية السبب . والسبب في التبرعات هو نية التبرع ، وكيف يتصور أن يتكون نية التبرع في ذاتها غير مشروعة ! إن وجه الاستحالة في ذلك هو الذي يفسر أن بعض أنصار النظرية التقليدية ، ومنهم كابيتان ، يجنحون إلى اعتبار السبب في التبرعات هو الباعث الدافع إلى التبرع . بل إن القانون الروماني ذاته يعتد بالباعث في الوصايا وبعض الهبات كما أسلفنا .

281 – وجوب استبعاد النظرية التقليدية في أية صورة من صورها : ويتبين مما قدمناه ، أن النظرية التقليدية في السبب نظرية عقيمة . وهي نظرية يمكن استبعادها دون أية خسارة تلحق القانون ، إذ يسهل تخريج جميع النتائج التي يراد أن تترتب عليها وذلك بالرجوع إلى أساس قانونين آخر لا علاقة له بالسبب .

ويستوى في ذلك أن تكون النظرية التقليدية كما هي على أصلها ، أو أن تكون محورة على النحو الذي يقول به كابيتان . وهناك من الفقهاء من يستبقى النظرية التقليدية ، ويقصرها على السبب في الالتزام ، ويضع إلى جانبها نظرية القضاء ، ويجعلها في العقد لا في الالتزام ، وبذلك تمكن المقابلة بين السبب في الالتزام والباعث في العقد ( [28] ) . فهذه صور ثلاث للنظريات التقليدية .

وفي أية صورة من هذه الصور الثلاث لا نرى للنظرية التقليدية نفعاً يخول لها حق البقاء ، إذ يمكن الاستغناء عنها كما رأينا أياً كان الثقوب الذي تلبسه . وما هي إلا اثر من آثار الصياغة الرومانية القديمة ، وقد زالت مقتضيات هذه الصياغة ، فوجب أن تزول معها . ووجب في الوقت الذي تنبذ فيه النظرية التقليدية ألا تنبذ فكرة السبب في ذاتها ، على أن تكون هي الفكرة الخصبة المنتجة التي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد ، وهي النظرية التي قال بها القضاء الفرنسي . وننتقل الآن إليها .

2 – الأخذ بالنظرية الحديثة آلتي تقوم على الباعث الدافع إلى التعاقد

282 – السبب هو الباعث الدافع إلى التعاقد : لم تستطع النظرية التقليدية أن تواجه الحياة العملية ولم يستطع القضاء وهو الذي يعيش في غمار العمل أن ينتفع بها . لذلك لم يلبث القضاء الفرنسي أن خرج عليها خروجاً صريحاً ، فكسر الحواجز التي إقامتها هذه النظرية ما بين السبب والباعث ، وخلط بينهما خلطاً تاماً ، لا في التبرعات فحسب ، بل فيها وفي سائر العقود . وقد اكسب القضاء نظرية السبب بهذا المنهج مرونة لم تكن لها ، وأصبحت النظرية في يده منتجة نافعة لا غنى عنها ( [29] ) .

فالسبب في نظر القضاء هو الباعث الدافع الموجه ( mobile impulsive et determinant ) للملتزم في أن يلتزم . وما دامت الإرادة قد أصبحت حرة طليقة في أن تنشيء ما تشاء من الالتزامات ، وما دامت الإرادة لا بد لها من باعث يدفعها ، فلا أقل من أن يشترط القانون أن يكون هذا الباعث مشروعاً ، وأن يكون الغرض الذي ترمي الإرادة إلى تحقيقه غرضاً لا يحرمه القانون ولا يتعارض مع النظام العام ولا يتنافى مع الآداب . وبواعث الإرادة كثيرة متنوعة ، منها الدافع وغير الدافع ، ومنها الرئيسي وغير الرئيسي ، فالباعث الدافع الرئيسي هو الذي يعتد به ، ومتى أمكن الكشف عنه وجب الوقوف عنده ، إذ يكون هو السبب . بهذا المنطق الصحيح شق القضاء طريقه إلى النظرية الحديثة ( [30] ) ، وساير الفقه الحديث القضاء في هذا الطريق ( [31] ) .

وها نحن رجعنا ، بفضل ما عند القضاء من إحساس عملي ، إلى نظرية الفقهاء الكنسيين في السبب . وهي النظرية الخصبة المنتجة التي انحرف عنها دوما إلى النظرية التقليدية ، فكان هذا الانحراف سبباً في كل ما أحاط نظرية السبب من اضطراب وما أصابها من عقم طوال القرون الماضية ( [32] ) .

283 – مرونة الباعث وكيف ينضبط : والباعث بالتحديد الذي أسلفناه أكثر مرونة من السبب في النظرية التقليدية . ويكفي أن نعود إلى خصائص السبب ، نضعها إلى جانب خصائص الباعث ، لنرى النقيض إلى جانب النقيض . فقد قدمنا أن السبب معياره موضوعي وهو داخل في العقد لا يتغير في النوع الواحد من العقود ، أما الباعث فمعياره ذاتي وهو خارج عن العقد ويتغير من عقد إلى عقد بتغير المتعاقدين وما يدفعهم من البواعث . وما دام الباعث على هذا القدر من الذاتية والانفصال والتغير ، كان من الواجب أن ينظر كيف ينضبط ، حتى لا يكون مثاراً للتزعزع والقلقلة في التعامل .

ولا يجوز بداهة أن يعتد بالباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد إذا كان هذا الباعث مجهولا من المتعاقد الآخر ، وإلا استطاع أي متعاقد أن يتخلص من التزاماته بدعوى أن الباعث له على التعاقد – وهو أمر مستكن في خفايا الضمير – من شأنه أن يجعل العقد باطلا . فلا بد إذن من صلة وثيقة تربط كلا من المتعاقدين بالباعث ، ولا بد من ضابط يرجع إليه في ذلك . وقد رأينا مثل هذا في الغلط .

فما هو هذا الضابط ؟ أيكفي أن يكون الباعث معلوماً من الطرف الآخر ؟ أو يجب أن يكون متفقاً عليه بين المتعاقدين ؟ أو يصح التوسط بين هذين الحدين ، فيشترط أن يكون الطرف الآخر مساهما في الباعث الذي دفع الطرف الأول إلى التعاقد ، دون أن يصل إلى حد الاتفاق معه عليه ، ودون أن يقف عند حد مجرد العلم به ؟

ونأتي بمثل يوضح هذه المراتب المتدرجة . شخص يقترض نقوداً من آخر ليقامر بها . فالمقرض قد يجهل الغرض الذي أخذ المقترض النقود من اجله ، وفي هذه الحالة لا يعتد بالباعث الذي دفع المقترض إلى التعاقد ( [33] ) . وقد يكون المقرض صديقاً للمقترض ، عالماً بغرضه ، دون أن يقصد بالاقراض تمكين المقترض من الماقمرة ، وهذه هي مرتبة العلم . وقد يكون المقرض مرابياً يستثمر ماله في اقراض المقامرين ، فيكون قد قصد إلى تمكين المقترض من الماقمرة ، وهذه هي مرتبة المساهمة . وقد يكون المقرض هو الشخص الآخر الذي يقامر المقترض معه . فيتفقان على القرض للاستمرار في المقارمة ، وهذه هي مرتبة الاتفاق . فاية مرتبة من هذه المراتب الثلاث يتطلبها القانون حتى يعتد بالباعث ؟

رأينا كابيتان يقول بوجوب الوصول إلى مرتبة الاتفاق ، فلا يعتد بالباعث إلا إذا كان متفقاً عليه بين المتعاقدين ، والاتفاق وحده في نظر كابيتان هو الذي يدخل الباعث في دائرة التعاقد ( dans le champ contractual ) ( [34] ) . ولا شك في أن الفقيه الفرنسي الكبير قد اقترب بهذا القول من النظرية الحديثة في السبب ، ولكن دون أن يدخل في نطاقها ، فإن احداً من أنصار النظرية الحديثة لا يشترط وجوب الاتفاق على الباعث فيما بين المتعاقدين . وإنما هم منقسمون بين مرتبة العلم ومرتبة المساهمة .

أما القضاء الفرنسي فيكتفي بمرتبة العلم ، ويعتد بالباعث الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد ، ما دام المتعاقد الآخر يعلم أو يستطيع أن يعلم بهذا الباعث ، كما هي الحال في الغلط . وسنرى بعد قليل تطبيقات مختلفة للقضاء الفرنسي تدور كلها في هذا النطاق .

والفقه يميز بين المعاوضات والتبرعات ، فيتطلب في الأولى مرتبة أعلى . ولكن الفقهاء يختلفون في تحديد هذه المرتبة .

فيذهب جويران إلى أنه يكفي أن يكون الباعث في المعاوضات معلوماً من المتعاقد الآخر ، حتى يكون في هذا وقاية للتعامل من أن يتزعزع . أما في التبرعات فإن الإرادة التي نقف عندها هي إرادة المتبرع وحده ، فهي الإرادة التي تسيطر على التصرف ، سواء في ذلك أن يتم التبرع بتقابل إرادتين كالهبة أو بإرادة واحدة كالوصية . وهو لذلك يعتد بالباعث الذي دفع المتبرع إلى تبرعه ، سواء كان معلوماً من الطرف الآخر أو كان مجهولا منه ( [35] ) .

ويذهب بواجيزان ( Bois – Juzan ) إلى وجوب الوصول إلى مرتبة المساهمة في المعاوضات والاكتفاء بمرتبة العلم في التبرعات . ذلك أن المعاوضات تختلف عن التبرعات في أن الأولى بذل فيها كل من المتعاوضين شيئاً من عنده ، فإرادة كل منهما تقوم بدور أساسي في تكوين العقد . ومن ثم وجب أن تساهم كل إرادة من هاتين الإرادتين في الباعث الذي دفع إلى التعاقد مساهمة ايجابية ، وأن تتعاون الارادتان معاً في تحقيق الغرض غير المشروع . أما في التبرعات فإرادة المتبرع وحدها هي الأساسية ، إذ المتبرع وحده هو الذي بذل . ومن ثم جاز الاقتصار على هذه المرتبة السلبية وهي مرتبة العلم ، فهي كافية لاستقرار التعامل ( [36] ) .

وإذا كان الذي يعنينا في انضباط معيار الباعث هو استقرار التعامل ، فالقضاء الفرنسي على حق فيما ذهب إليه من الاكتفاء بمرتبة العلم ، سواء كان التصرف تبرعاً أو معاوضة .

284 – تطبيقات مقتبسة من القضاء الفرنسي : نستعرض القضاء الفرنسي بعض تطبيقات للسبب مفهوماً بمعنى الباعث الذي دفع إلى التعاقد ، مرجئين القضاء المصري إلى حين الكلام في نظرية السبب في القانون المدني الجديد . ونتبع في هذا الاستعراض التقسيم الثلاثي المعروف للتصرفات إلى عقود ملزمة للجانبين وعقود عينية وتبرعات .

ففي العقود الملزمة للجانبين ، كثيراً ما يبطل القضاء في فرنسا عقوداً يكون الباعث إلى التعاقد فيها غير مشروع ، وإن كان السبب ، بالمعنى الذي تقول به النظرية التقليدية ، مشروعاً في هذه العقود . فالبيع أو الإيجار ، إذا وقع أي منهما على منزل يريد المشتري أو المستأجر إدارته للعهارة ، وكان البائع أو المؤجر عالماً بقصد المشتري أو المستأجر ، يكون باطلا طبقاً لأحكام القضاء الفرنسي . وقد أراد بعض الفقهاء التمييز بين فرضين : ( 19 منزل معد للعهارة يباع أو يؤجر بعد اعداده ، فيعتبر متجراً ( fonds de commerce ) لا مجرد مكان ، وفي هذه الحالة يكون البيع أو الإيجار باطلا لعدم مشروعية السبب وعدم مشروعية المحل معاً . ( 2 ) ومنزل يباع أو يؤجر قبل أن يعد للعهارة ، باعتبار أنه مكان لا متجر منه ولو كان قصد المشتري أو المستأجر أن يديره للعهارة ، وفي هذه الحالة لا يكون العقد باطلا طبقاً للنظرية التقليدية التي تميز بين السبب والباعث ( [37] ) . ولكن القضاء الفرنسي لمي أخذ بهذا التمييز ، فهو يبطل العقد في الفرضين ، جاعلا السبب هو الباعث ، جرياً على النظرية التي يأخذ بها ( [38] ) . ويفعل القضاء الفرنسي ذلك أيضاً في الإمكان الآتي تدار للمقارمة ، فبيع أو إيجار مبنى يراد به أن يكون مكاناً للمقامرة باطل ( [39] ) .

وفي العقود العينية ، يبطل القضاء الفرنسي قرضاً يكون قصد المقترض منه أن يتمكن من المقامرة ويكون المقرض عالماً بهذا القصد ، سواء كان مشتركا معه في المقارمة أو لم يكن ، وسواء كان يفيد منهذه المقارمة أو لم يكن يفيد ( [40] ) . ويبطل القرض أيضاً إذا كان الغرض منه أن يتمكن المقترض من الحصول علىمنزل يديره للعهارة ( [41] ) . أو أن يستبقى صلات غير شريفة تربطه بخليلة له ( [42] ) . وكالقرض رهن الحيازة ( [43] ) .

أما في التبرعات فقد كان القضاء الفرنسي اشد إمعاناً في جعل الباعث هو السبب . ولم يقف عند نية التبرع ، بل اعتد بالباعث على التبرع ، ونقب عن العوامل النفسية التي دفعت المتبرع إلى التجرد عن ماله دون مقابل ، أكان يريد الخير في ذاته ، أم يريد مصلحة خاصة مشروعة ، أم يرمى إلى غرض غير مشروع . فإذا تبين أن الباعث الذي دفع إلى التبرع غير شريف أو غير مشروع أبطل التبرع . والتطبيقات على هذا المبدأ كثيرة متنوعة نذكر أهمها : ( أولاً ) التبرع لولد غير شرعي : يقضي بالقانون المدني الفرنسي بان يكون نصيب الولد غير الشرعي في مال أبويه ، تبرعاً أو ميراثاً ، محصوراً في حدود ضيقة . فإذا زاد التبرع على الحد المفروض كان الإنقاص إلى هذا الحد واجباً .

أما إذا كانت البنوة غير الشرعية ليست ثابتة قانوناً ، فالتبرع جائز ولو زاد على الحد ، ما دام لم يثبت أن التبرع قد كان لولد غير شرعي . ولكن القضاء الفرنسي يبطل التبرع إذا ظهر أن الباعث للمتبرع على تبرعه هي علاقة بنوة غير شرعية ، فيجعل الباعث هو السبب ، ولا يكتفي بإنقاص التبرع إلى الحد الجائز ، بل يبطله جميعه ( [44] ) . ( ثانياً ) تبرع الخليل لخليلته : ويبطل القضاء الفرنسي تبرع الخليل لخليته إذا ثبت أن الباعث على هذا التبرع قد كان لإيجاد هذه العلاقة غير الشريفة أو لاستبقائها أو لإعادتها ( [45] ) . أما إذا كان الباعث على التبرع إنما هو تعويض الخليلة عما أصابها من الضرر بسبب هذه المعاشرة غير الشرعية بعد أن انقطعت ، فالباعث يكون مشروعاً والتبرع يكون صحيحاً ، بل هو في الواقع يعتبر وفاء الالتزام طبيعي ( [46] ) . وقد سبق بيان ذلك عند الكلام في محل الالتزام المخالف للآداب . ( ثالثاً ) تبرع الزوج لزوجته حتى يحملها على أن تنفصل عنه انفصالا ودياً : انفصال الزوجة عن زوجها ( separation des corps ) في القانون الفرنسي لا يكون إلا بعد إتباع إجراءات خاصة ، نص عليها هذا القانون ، أو يكون بالطلاق . وفيما عدا هاتين الحالتين فالاتفاق ما بين الزوجين على أن ينفصل أحدهما عن الآخر ( separation de fait ) دون إتباع الإجراءات المرسومة لذلك يكون غير مشروع . فإذا تبرع الزوج لزوجته حتى يحملها على الرضاء بهذا الانفصال الودي يكون سبب تبرعه ، أو الباعث عليه ، غير مشروع ، ويبطل التبرع ( [47] ) . ( رابعاً ) التبرع المقرون بشرط : إذا اقترن التبرع بشرط غير مشروع ، بطل الشرط ، وبقى التبرع ، وهذا ما تنص عليه المادة 900 من القانون المدني الفرنسي . إلا أن القضاء الفرنسي قد من هذا الحكم بفضل نظريته في السبب . فقد ميز في الشرط الذي يقترن به التبرع بين شرط دافع وشرط غير دافع ، فالثاني وحده هو الذي يطبق عليه نص المادة 900 ويبطل إذا كان غير مشروع مع بقاء التبرع قائماً . أما الشرط الدافع إلى التبرع ، أي الباعث على هذا التبرع ، فقد اعتبره القضاء سبباً لالتزام المتبرع ، ويترتب على ذلك أنه إذا كان غير مشروع ، فإن التبرع جميعه يكون باطلا ، ولا يقتصر الأمر على بطلان الشرط ( [48] ) .


 ( [1] ) أنظر بسطاً وافياً للنظرية التقليدية للسبب في ديمولومب 24 ص 329 وما بعدها .

 ( [2] ) وهذا هو الأصل الفرنسي : ‘ L’obligation n’existe que si elle a une eause certaine et licite’ .

 ( [3] ) وقد رأينا أصل هذا التمييز فيما نقله المحشون والبارتوليون عن الفلسفة اليونانية من التمييز بين السبب ( causa proxima , finalis ) والباعث ( causa remote, impulsive ) ( أنظر آنفاً فقرة 256 ) ، وفي التمييز الذي قال به بوتييه بين السبب بمعنى مصدر الالتزام والسبب بمعنى الغرض الذي يقصد إليه الملتزم ( أنظر آنفاً فقرة 260 في الهامش ) .

 ( [4] ) وهذا في غير القانون المصري الجديد الذي ألغى العقود العينية كما رأينا ، ولم يبق منها إلا هبة المنقول . ثم هذا بفرض أن العقود العينية ملزمة لجانب واحد كما يذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء .

 ( [5] ) كابيتان في السبب فقرة 28 .

 ( [6] ) ويلاحظ أن القانون الروماني كان يأبى أن يدفع فكرة السبب في عقد البيع إلى حد أن يتطلب بقاء السبب بعد تكوين العقد ، بل كان يقف بفكرة السبب عند تكوين العقد ، دون أن يجاوز مرحلة التكوين إلى مرحلة التنفيذ . فلم يكن يسلم بأية نظرية من هذه النظريات الثلاث : الدفع بعدم التنفيذ والفسخ وتحمل المدين تبعة استحالة التزامه ( أنظر آنفاً فقرة 352 ) . فالنظرية التقليدية في السبب متقدمة في هذه الناحية على القانون الروماني .

 ( [7] ) ويتحقق انعدام السبب ، دون وهم أو إكراه ، في عقد احتمالي يسمى ” كرة الثلج ” ( boule de neige ) ( أنظر في ذلك نظرية العقد للمؤلف ص 551 هامش رقم 3 ) كما قد يتحقق في سائر العقود الاحتمالية – وهي عقود السبب فيها هو احتمال المكسب والخسارة في كل من الجانبين – فإذا انعدم هذا الاحتمال في جانب انعدم سبب الالتزام ، وقد يكون ذلك عن بينة وفي غير إكراه .

 ( [8] ) أنظر في هذا المعنى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 ) .

 ( [9] ) محكمة مصر الكلية الوطنية في 5 يونية سنة 1901 الحقوق 16 ص 179 . محكمة الاستئناف المختلطة في 27 يناير سنة 1909 م 21 ص 136 – وفي 8 ديسمبر سنة 1920 م 33 ص 59 – وفي 24 فبراير سنة 1921 م 34 ص 83 – و في 12 يناير سنة 1922 ص 34 ص 119 .

 ( [10] ) اوبرى ورو 4 ص 553 – لارو مبيير م 1132 فقرة 11 – ديمولومب 24 فقرة 335 – لوران 16 فقرة 150 – بفنوار ص 541 .

 ( [11] ) نقض فرنسي في أول مايو سنة 1855 داللوز 1855 – 1 – 147 .

 ( [12] ) محكمة عابدين الجزئية في 17 مارس سنة 1915 المجموعة الرسمية 16 رقم 56 – وانظر أيضاً محكمة مصر المختلطة في 8 ديسمبر سنة 1919 جازيت 11 رقم 99 .

 ( [13] ) ويؤيد هذا الرأي والتون ( جزء أول ص 285 – ص 288 ) والدكتور محمد صالح بك ( الالتزامات ص 254 ) .

 ( [14] ) 24 فبراير سنة 1921 م 34 ص 85 – وانظر أيضاً محكمة مصر المختلطة في 23 يناير سنة 1922 جازيت 12 رقم 161 ص 90 .

 ( [15] ) سنة 1826 ص 250 – ص 264 .

 ( [16] ) جزء 16 فقرة 111 .

 ( [17] ) في رسالة عنوانها : ” بمناسبة تنقيح القانون المدني ، السبب في العقود ” بروكسل سنة 1890 :

‘ A propos de la revision du Code Civil – De la Cause dans les conventions’ . Bruxelles 1890 .

 ( [18] ) نذكر منهم أرتير ( Artur ) في السبب في القانون الروماني والقانون الفرنسي باريس سنة 1878 – تامبال ( Timbal ) في السبب في العقود والالتزامات تولوز سنة 1882 – سيفريادس ( Seferiades ) بحث انتقادي في نظرية السبب باريس سنة 1897 – أنظر أيضاً هيك الجزآن السادس والسابع .

 ( [19] ) الجزء الثاني فقرة 1037 – فقرة 1039 .

 ( [20] ) الجزء الأول فقرة 321 – فقرة 327 .

 ( [21] ) ” نظرية السبب ” بروكسل سنة 1919 .

 ( [22] ) ويقول الأستاذ والتون إن نظرية السبب التقليدية مثار للنقد الشديد ، ويتوقع أن التقنين المدني عند تنقيحه يستبعد فكرة السبب كركرن في الالتزام ، ويسير في ذلك على نهج التقنينين الألماني والسويسر ( والتون 1 ص 59 – ص 60 ) .

 ( [23] ) أنظر أيضاً علماء الفقه التقليدي كأوبري ورو وديمولومب وبيدان وبفنوار . وانظر بريسو في رسالة من بوردو سنة 1879 ، وكولان في رسالة من باريس سنة 1895 ويوناسكو في السبب سنة 1923 .

 ( [24] ) ويبني كابيتان على أن السبب هو تنفيذ الالتزام لا وجوده ارتباط مصير كل من الالتزامين المتقابلين بمصير الالتزام الآخر . ويرتب على هذا الارتباط نظريات الفسخ والدفع بعدم التنفيذ وتحمل التبعة ، فهذه النظريات جميعاً لا يمكن أن تقوم إلا على أساس أن السبب هو تنفيذ الالتزام لا وجوده .

ويحدد كابيتان السبب في العقد الملزم للجانبين إذا كان احتمالياً بوجود الاحتمال ذاته في العقد ( السبب فقرة 18 ص 40 ) ، وفي العقد الملزم للجانبين الذي يتوخى فيه جميع المتعاقدين غرضاً مشتركا ، كالجمعيات والشركات ، بالغرض المشترك الذي قصد المتعاقدون تحقيقه ( السبب فقرة 19 ) .

 ( [25] ) كابيتان في السبب فقرة 25 – ويستعرض كابيتان العقود الأخرى الملزمة لجانب واحد : فالوكالة بغير اجر سبب الالتزام فيها هو إسداء جميل للموكل كما في الوديعة بغير اجر – والوعد بالتعاقد سبب الالتزام فيه هو إتمام التعاقد النهائي – والالتزام بوفاء دين يختلف السبب فيه ، فهو تارة يكون فكرة التبرع ، وطوراً يكون فكرة التجديد ، وثالثة يكون تحويل التزام طبيعي إلى التزام مدني ( ويرى كابيتان أن الاعتراف بالالتزام الطبيعي ليس تجديداً له بل هو إنشاء لالتزام مدني السبب فيه هو الالتزام الطبيعي ) – والكفالة سبب التزام الكفيل فيها العلاقة بينه وبين المدين ، وكذلك الإنابة في الوفاء ، وقد يكون هذا السبب تبرعا ، وقد يكون وفاء لدين في ذمة الكفيل للمدين أو في ذمة المناب للمنيب ، أو قرضاً يعطيه الأول للثاني ( كابيتان في السبب فقرة 26 – فقرة 32 ) .

 ( [26] ) إلى جانب الحالتين اللتين رأينا كابيتان يخلط فيهما الباعث بالسبب توجد حالة ثالثة يعتد فيها كابيتان بالباعث أيضاً ، وذلك إذا أدخل المتعاقدان الباعث في دائرة التعاقد ( champ contractual ) ، وأصبح جزءاً من العقد متفقاً عليه . ويختلف كاسبيتان في هذا عن النظرية الحديثة ، فعنده لا تكفي للاعتداد بالباعث أن يكون معروفاً من المتعاقدين كما تقول النظرية الحديثة ، بل يجب أن يكون متفقاً عليه بينهما ( كابيتان في السبب ص 244 ) .

 ( [27] ) ويعتبر القرض في هذه الحالة عقداً ملزماً للجانبين ، يلتزم به المقرض أن يسلم للمقترض مبلغ القرض ، ويلتزم به المقرض أن يرد هذا المبلغ للمقرض . فهناك ارتباط ظاهر بين الالتزامين ، وسنرى أن فكرة الارتباط في العقود الملزمة للجانبين تغني عن فكرة السبب . فإذا لم ينفذ المقرض التزامه ، سقط التزام المقترض لما يوجد من ارتباط بين الالتزامين .

 ( [28] ) أنظر بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 252 ص 350 – فيفورنو في العقد في المشروع الفرنسي الإيطالي وفي القانون المقارن فقرة 124 ص 432 – ص 433 – أنظر أيضاً أوبرى وروى 4 فقرة 345 هامش رقم 1 – ديمانت وكولميه دي سانتير 5 فقرة 46 .

 ( [29] ) أنظر في المقابلة ما بين جمود النظرية التقليدية ومرونة النظرية الحديثة إلى بنكاز ملحق بودري 2 فقرة 550 وفقرة 613 .

 ( [30] ) أنظر في تحليل القضاء إلى دابان في نظرية السبب فقرة 152 – فقرة 165 .

 ( [31] ) ديموج 2 فقرة 746 ص 543 – ليفي اولمان في مذكراته في الالتزامات في الريع الأول من القرن العشرين ص 320 وص 328 – ص 334 – بنكاز ملحق بودري جزء 2 فقرة 608 و 609 و 212 – جوسران 2 فقرة 148 .

 ( [32] ) وليست نظرية الباعث خصبة فحسب في نطاق القانون المدني والقانون الخاص بوجه عام ، بل هي أيضاً خصبة في نطاق القانون العام . . فنظرية التعسف في استعمال السلطة في القانون الإداري – وهي التي بنى على غرارها نظرية التعسف في استعمال الحق في القانون المدني – إنما هي تطبيق لفكرة الباعث . فإذا كان الباعث للموظف الذي صدر منه القرار الإداري غير مشروع ، كان القرار باطلا للتعسف في استعمال السلطة .

وكما جاز أن يقال بالتعسف في استعمال السلطة الإدارية تطبيقاً لفكرة الباعث ، إلا يجوز أن يقال بالتعسف في استعمال السلطة التشريعية تطبيقاً للفكرة ذاتها ؟ فلا يكون العيب في التشريع أن يكون مخالفاً للدستور فحسب ، كما يخالف القرار الإداري القانون ، بل يجوز ايضاً أن يكون التشريع منطوياً على تعسف إذا هو مثلا مس حقوقاً مكتسبة لا ينبغي أن تمس ، أو إذا كان تحت ستار أن ه قاعدة عامة مجردة لم يتناول في الواقع إلا حالة فردية ذاتية ؟ هذا أمر نكتفي بالإشارة إليه ، فليس هنا مكان البحث فيه .

 ( [33] ) ومع ذلك يعتد ريبير بالباعث حتى إذا انفرد به أحد المتعاقدين ولم يعلمه المتعاقد الآخر ، اغرقاً منه في فكرته المأثورة من وجوب اخضاع التعامل لقواعد الآداب ( القاعدة الأدبية في الاتلزامات فقرة 35 ص 65 ) .

 ( [34] ) أنظر آنفاً فقرة 274 في الهامش – وانظر كابيتان في السبب ص 244 .

 ( [35] ) أنظر جوسران في البواعث ( Les Mobiles ) فقرة 159 ص 201 وفقرة 160 ص 203 .

 ( [36] ) أنظر بواجيزان ( Bois – Juzan ) في السبب في القانون الفرنسي ص 573 – ص 580 .

 ( [37] ) لوران 25 فقرة 65 – بودري وفال 1 فقرة 157 .

 ( [38] ) أنظر كتاب الإيجار للمؤلف فقرة 113 ص 157 – وانظر أيضاً كابيتان في السبب فقرة 110 – ومن الأحكام الفرنسية التي قضت ببطلان عقد الإيجار إذا كان المستأجر قد قصد إدارة العين المؤجرة للعهارة : محكمة ليون الإستئنافية في 11 يولية سنة 1862 سيريه 63 – 2 – 165 – محكمة باريس الإستئنافية في 26 ديسمبر سنة 1899 جازيت دي باليه 1900 – 1 – 132 . وهناك أحكام قضت ببطلان عقد الاستخدام في محل يدار للعهارة : عمحكمة النقض الفرنسية في 11 نوفمبر سنة 1890 داللوز 91 – 1 – 484 . وأحكام قضت ببطلان عقد بيع مفروشات لمحل يدار للعهارة : محكمة السين التجارية في أول مايو سنة 1888 جازيت دي باليه 88 – 1 – 797 . وأحكام قضت ببطلان بيع مشروبات اشتراها مرشح في الانتخاب لتقديمها إلى الناخبين حتى يحملهم على انتخابه وكان بائع المشروبات يعرف قصد المشتري : محكمة تارب ( Tarbes ) الابتدائية في 14 مارس سنة 1899 داللوز 1904 – 2 – 201 .

 ( [39] ) محكمة بو الإستئنافية في 28 يونية سنة 1906 سيريه 1907 – 2 – 61 – متجر ) – محكمة نيس الابتدائية في 18 نوفمبر سنة 1909 جازيت دي تربيينو 1910 – 1 – 119 ( مجرد مكان ) .

 ( [40] ) نقض فرنسي في 4 يوليوة سنة 1892 داللوز 92 – 1 – 500 .

 ( [41] ) نقض فرنسي في أول ابريل سنة 1895 سيريه 96 – 1 – 289 .

 ( [42] ) نقض فرنسي في 17 ابريل سنة 1923 داللوز 1923 – 1 – 172 .

 ( [43] ) أنظر مذكرات الأستاذ ليفي أولمان في الالتزامات في الربع الأول من القرن العشرين ص 327 .

 ( [44] ) نقض فرنسي في 6 ديسمبر سنة 1876 داللوز 77 – 1 – 492 – وفي 29 يونيه سنة 1887 سيريه 87 – 1 – 358 .

 ( [45] ) نقض فرنسي في 8 يولية سنة 1925 سيريه 1927 – 1 – 294 – وفي 8 يونية سنة 1926 داللوز 1927 – 1 – 113 .

 ( [46] ) نقض فرنسي في 11 مارس سنة 1918 سيريه 1918 – 1 – 170 .

 ( [47] ) نقض فرنسي في 2 يناير سنة 1907 داللوز 1907 – 1 – 137 .

 ( [48] ) نقض فرنسي في 17 يولية سنة 1883 سيريه 84 – 1 – 305 – وفي 8 مايو سنة 1901 داللوز 1902 – 1 – 220 – وفي 23 يوليوة سنة 1913 داللوز 1915 – 1 – 49 – وفي 31 أكتوبر سنة 1922 داللوز 1922 – 1 – 239 .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

قوانين أردنية  مهمة :

قانون التنفيذ الأردني وفق أحدث التعديلات

قانون العقوبات الأردني مع كامل التعديلات 

قانون التنفيذ الأردني مع التعديلات

 قانون المخدرات والمؤثرات العقلية

القانون المدني الأردني

قانون أصول المحاكمات الجزائية

قانون الملكية العقارية الأردني

قانون الجرائم الإلكترونية

قانون محاكم الصلح

جدول رسوم المحاكم

قانون العمل الأردني

قانون البينات الأردني

قانون أصول المحاكمات المدنية

 

 

مواضيع قانونية مهمة :

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

جريمة النصب في القانون المغربي

الذم والقدح والتحقير والتشهير

انعدام الأهلية ونقصها 

صفة التاجر مفهومها وشروطها

جريمة إساءة الأمانة

أحدث نموذج عقد إيجار

عقد البيع أركانه وآثاره

 

 

 

السبب في القانون المدني

السبب في القانون المدني

242 – السبب عنصر متميز عن الإرادة ولكنه متلازم معها : نعرف السبب تعريفاً أولياً بأنه هو الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه . والفرق بينه وبين المحل – كما يقال عادة – هو أن المحل جواب من يسأل : بماذا التزم المدين ( Quid debetur ) ، أما السبب فجواب من يسال : لماذا التزم المدين ( Cur debetur ) ( [1] ) .

والسبب بهذا المعنى لا يكون عنصرا في كل التزام ، بل يقتصر على الالتزام العقدي إذا الالتزام غير العقدي لم يقم على إرادة الملتزم حتى يصح السؤال عن الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه .

والسبب كعنصر في الالتزام العقدي دون غيره إنما يتصل أوثق الاتصال بالإرادة . والحق أن السبب ليس هو الإرادة ذاتها ، ولكنه هو الغرض المباشر الذي اتجهت إليه الإرادة . فهو ليس عنصراً من عناصر الإرادة يتوحد معها ، بل هو عنصر متميز عن الإرادة . ولكن لما كانت الإرادة البشرية لا يمكن أن تتحرك دون أن تتجه إلى سبب ، أي دون أن ترمي إلى غرض تهدف لتحقيقه ، لذلك كان السبب ، وإن تميز عن الإرادة ، متصلا بها أوثق الاتصال . فحيث توجد الإرادة يوجد السبب . ولا تتصور إرادة لا تتجه إلى سبب إلا إذا صدرت عن غير وعي ، كإرادة المجنون . ولكننا رأينا أن الإرادة لا يعتد بها إلا إذا صدرت عن وعي وتميز ، فالإرادة المعتبرة قانوناً لا بد لها من سبب .

ويمكن إذن أن نستخلص مما تقدم أن السبب ركن في العقد غير ركن الإرادة . ولكن الركنين متلازمان ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ( [2] ) .

243 – السبب والإرادة معنيان متلازمان ولسكن السبب والشكل معنيان متعارضان : وتاريخ نظرية السبب يقوم على الحقيقة الآتية : كلما زاد حظ الإرادة في تكوين العقد ، وضعف حظ الشكل ، زادت أهمية السبب . ذلك لأن الإرادة ، من حيث إنها تحدث آثاراً قانونية ، إذا انطلقت من قيود الشكل ، وجب أن تتقيد بالسبب . وعند ما كان الشكل وحده – دون الإرادة – هو الذي يكون العقد ، لم يكن للسبب من اثر . وبدا السبب في الظهور عندما بدأت الإرادة تتحرر متدرجة من قيود الشكل . وكلما زاد تحررها من هذه القيود زاد رطبها بقيود السبب ، إلى أن تم تحريرها ، فوجدت نظرية السبب كاملة تحل محل الشكل .

ونرى مما تقدم أنه حيث يتغلب الشكل يقل شأن السبب ، وحيث يضعف الشكل يقوى أمر السبب . هكذا كانت الحال في القانون الروماني : فقد بدأ هذا القانون شكلياً ، فلم يكن فيه إذ ذاك للسبب نصيب . ولما أخذ الشكل يتقلص وتظهر العقود الرضائية ، بدا السبب يظهر بظهور الإرادة ليكون قيداً لها بدلا من الشكل . وهكذا كانت الحال في القانون الفرنسي القديم : فإن السبب لم يكد يعرف فيه إلا عندما وصل رجال الكنيسة إلى تقرير الرضائية في العقود . فظهر السبب بعد أن كانت الشكلية تستره ، وبرز قوياً ليحوط الإرادة بقيود تحل محل قيود الشكل ، وهكذا هي الحال في القانون الحديث حيث الشكلية تكاد تنعدم ، فأينعت نظرية السبب وتطورت ، بل لعلها رجعت إلى أصلها قوية كما كانت في القانون الكنسي ، لولا أن العقد المجرد حل محل العقد الشكلي في الانتقاص من سلطان السبب .

244 – علاقة السبب بالمشروعية وبعيوب الإرادة : منذ تحررت الإرادة : منذ تحررت الإرادة من الشكل ، حاطها السبب بقيود على ما قدمنا . وبدأ ذلك يكون لحماية المجتمع عن طريق المشروعية وفي صورة السبب المشروع . فالإرادة حتى تنتج أثرها يجب أن تتجه إلى غرض مشروع لا يتعارض مع النظام العام ولا مع الآداب ، وذلك حماية للمجتمع ، ثم اتخذت نظرية السبب لها هدفاً آخر إلى جانب هذا الهدف الأول ، فصارت تحمى المتعاقد نفسه من هزله ونسيانه ومما قد يقع فيه من غلط أو تدليس أو إكراه . وهكذا بعد أن تحررت الإرادة من الشكلية أخذت تتحرر من العيوب عن طريق نظرية السبب . وبعد أن قامت نظرية السبب لحماية المجتمع ، أخذت تقوم لحماية المجتمع والمتعاقدين جميعاً .

ولعل أول صورة تمثلت لعيوب الإرادة انطبعت في نظرية السبب . ثم أخذت عيوب الإرادة تستقل عن السبب شيئاً فشيئاً ، وتكسب لها كياناً ذاتياً خارجاً عن منطقة السبب . فانفصل الإكراه ، ثم انفصل التدليس . وأصبح السبب الآن لا يختلط إلا بالغلط في منطقة مشتركة ، هي منطقة السبب المغلوط أو الغلط في السبب . وقد أتم القانون المدني الجديد هذا التطور ، ففصل بين الغلط والسبب فصلا تاماً . وأصبح السبب في هذه القانون مقصوراً على السبب المشروع . وهذه الدائرة المحدودة – دائرة السبب المشروع – هي الدائرة الأولى التي نشأ فيها السبب عندما بدا يظهر في القانون الكنسي ، وبذلك رجع السبب سيرته الأولى ، وعاد كما بدا .

245 – تطور العقد من عقد شكلي إلى عقد رضائي مسبب إلى عقد رضائي مجرد : وتاريخ نظرية السبب يهدينا إلى حقيقة أخرى . فيسقرئنا هذا التاريخ أن العقد بدأ عقداً شكلياً ( contrat formel ) حيث السبب لا اثر له كما قدمنا . ثم تطور إلى عقد رضائي ( contrat consensual ) حيث السبب له اكبر الأثر ثم تطور اخيراً إلى عقد مجرد ( contrat abstrait ) حيث انفصلت الإرادة عن سببها ولم يعد للسبب إلا اثر غير مباشر . وسنرى أن القانون المصري الجديد لم يماش هذا التطور إلى نهايته ، ولم يسر في ذلك على نهج القوانين الجرمانية ، بل حرص على أن يبقى في دائرة القوانين اللاتينية ، حيث لايزال العقد رضائياً ، وحيث تشغل نظرية السبب في العقد المكان البارز ، وحيث لا يوجد العقد المجرد إلا في دائرة محدودة ضيقة .

246 – خطة البحث في نظرية السبب : ونستعرض نظرية السبب في مبحثين ، نتعقب في المبحث الأول منهما كيف نشأت نظرية السبب وكيف تطورت ، ونبسط في المبحث الثاني نظرية السبب في القانون الحديث .

المبحث الأول

كيف نشأت نظرية السبب

247 – القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم : في هذين القانونين يجب أن نتعقب كيف نشأت نظرية السبب . ولعل نظرية قانونية لا يلقى عليها تاريخ تطورها من الضوء بمقدار ما يلقى التاريخ على نظرية السبب . وسنرى أن القانون الروماني ظل بمعزل عن هذه النظرية إلى مدى بعيد إذ غلبت فيه الشكلية . وقد نبتت النظرية ثم ترعرعت منذ تحررت الإرادة من الشكل في عهد القانون الكنسي كما قدمنا . وتطورت النظرية يعد ذلك تطوراً يغاير طبيعتها ، وانقلبت على يد دوما ( Domat ) ومن سبقه وتلاه من الفقهاء من نظرية نفسية إلى نظرية موضوعية . وبقيت كذلك عهوداً طويلة . وانتقلت على هذا النحو إلى القانون الفرنسي الحديث ، ضعيفة الأثر ، قليلة الجدوى . وسنشهد بعد ذلك كيف أن النظرية استردت جدتها في العهد الأخير ، ورجعت خصبة قوية منذ عادت نظرية نفسية .

المطلب الأول

نظرية السبب في القانون الروماني

1 – العهد القديم

248 – العقود كانت شكلية فلم يسكن للسبب فيها أي اثر : كانت العقود في العهد القديم للقانون الروماني شكلية . فكان العقد ينعقد بأوضاع وأشكال خاصة ، ولم يكن للإرادة أي تدخل في تكوينه . وكانت العقود الشكلية ثلاثة : عقد يتم بوزن صوري ( nexum ) ، ثم ظهر إلى جانبه العقد الكتابي ( litteris ) ويتم بكتابة على نحو خاص ، والعقد اللفظي ( verbis ) ويتم بألفاظ معينة . ولم تكن هذه العقود الشكلية عقوداً بالذات ، بل كانت قوالب تصب فيها العقود . فالبيع والإيجار والقرض والشركة وغير ذلك من العقود كانت توضع في شكل من هذه الأشكال الثلاثة حتى يتم انعقادها . وهذه الأشكال هي التي كان الرومان يدعونها ” السبب المدني ” ( causa civilis ) . فهي ليست سبباً للالتزام العقدي على النحو المعروف في القانون الحديث ، بل هي سبب لانعقاد العقد ، أو هي الشكل القانوني الذي يجعل العقد يتكون ( [3] ) . وهذا الشكل ضروري في انعقاد العقد ، وهو في الوقت ذاته كاف لانعقاده . فهو ضروري لأن العقد بدونه لا ينعقد . وهو كاف لأنه متى وجد انعقد العقد ، سواء قامت إرادة المتعاقدين إلى جانب الشكل أو لم تقم ، وسواء كانت الإرادة إذا قامت صحيحة أو معيبة ، وسواء اتجهت إلى غرض مشروع أو غرض غير مشروع . فالشكل وحده ، لا الإرادة ، هو الي يوجد العقد .

ومن ثم يتبين أن السبب في هذه العقود الشكلية لم يكن له أي اثر في تكوين العقد ، فسواء وجد أن لم يوجد ، وسواء كان مشروعاً أو غير مشروع ، فإنه لا شأن له بالعقد ، مثله في ذلك مثل الإرادة . ومتى توافر للعقد لشكله القانونين انعقد ، دون نظر إلى الإرادة ، ودون نظر إلى السبب .

249 – وكذلك طرق نقل الملكية كانت شكلية ولم يكن للسبب فيها أي اثر : وكما كانت العقود في العهد القديم شكلية مجردة عن السبب ، كذلك كانت طرق نقل الملكية . فلم تكن الملكية تنتقل بالعقد . بل كان العقد يتلوه وضع خاص هو الذي ينقل الملكية . وكانت هذه الأوضاع هي أيضاً ثلاثة : وضع يتم بأشكال عتيقة ( mancipatio ) ، ووضع يتم بدعوى صورية أمام القضاء ( in jure cession ) ، ووضع مادي يتم بالتسليم ( tradition ) وأي وضع من هذه الأوضاع متى تم تنتقل به الملكية ، دون نظر إلى السبب الذي انتقلت من اجله كبيع أو هبة أو شركة . فإذا باع شرخص من آخر شيئا ، وتم وضع من هذه الأوضاع الثلاثة ينقل به البائع ملكية المبيع إلى المشتري ، انتقلت الملكية ، دون نظر إلى ما إذا كان البيع قد تم أو لم يتم ، ودون نظ رالى ما إذا كان قد تم صحيحاً أو كان فيه عيب .

2 – العهد المدرسي

250 – اختفاء أكثر العقود الشكلية : تطور القانون الروماني بانتشار التجارة وتقدم طرق التعامل ، فاختفت أكثر العقود الشكلية . اختفى عقد الوزن الصوري ( nexum ) بزوال الفائدة التي كان يوليها ، وهي دعوى من دعاوى الرومان القديمة تمكن الدائن من السيطرة على جسم المدين ( manus injection ) . واختفى العقد الكتابي ( litteris ) باختفاء السجلات الخاصة التي كان هذا العقد يدون فيها ، وكان الرومان قبلا يحتفظون بها ، ثم اخذوا يهجرون هذه العادة شيئاً فشيئاً حتى انقرضت ، فانقرض بانقراضها العقد الكتابي .

ولم يبق من القيود الشكلية إلا العقد اللفظي ( verves, stipulation ) لسهولته النسبية وللحاجة إليه إذا حرص المتعاقدان على استبقاء مزايا العقد الشكلي .

251 – بدء ظهور السبب في العقد اللفظي : على أن العقد اللفظي مع بقائه شكلياً لم يخل مع تطور القانون الروماني من أن يتأثر بفكرة السبب . تأثر بها تأثراً غير مباشر في ناحيتين ، ثم تأثر بها تأثراً مباشراً في ناحية الثالثة .

فإذا كان العقد اللفظي سببه غير موجود أو غير مشروع ، فإن العلاج لم يكن بطلان العقد كما هو الأمر في القانون الحديث ، بل كان العقد يبقى صحيحاً ، ولكن المدين يعطي دعوى من دعاوى الاسترداد المعروفة في القانون الروماني ( condictiones sine causa ) يستطيع أن يسترد بها أما أعطاه دون سبب أو بسبب غير مشروع . وهذه الدعوى قد يلجأ إليها المدين كدعوى يرفعها على الدائن أو كدفع يدفع به دعوى الدائن . فهو إذا لجأ إليها كدفع يستطيع أن يتوقى مطالبة الدائن له بالتزام قام على سبب غير صحيح أو لسبب غير مشروع . وإذا لجأ إليها كدعوى يستطيع أن يسترد بها ما دفع للدائن وفاء لهذا الالتزام ، أو أن يتخلص من الالتزام ذاته إذا لم يكن قد وفى به . وسنرى عند الكلام في الإثراء بلا سبب الصور المختلفة الدعوى الاسترداد هذه ( [4] ) . ويلاحظ أن هذه الدعوى كانت من خلق القانون الروماني المدني ( Jus civil ) .

أما القانون البريطوري ( droit pretorien ) فقد جعل للمدين في الحالة المتقدمة دفعاً هو الدفع بالغش ( exception doli ) يستطيع به أن يتوقى مطالبة الدائن ، دون أن يستطيع مهاجمته للتخلص من التزامه أو لاسترداد ما دفع .

هاتان هما الناحيتان اللتان تأثر فيهما العقد اللفظي بفكرة السبب تأثراً غير مباشر . ونقول غير مباشر لأن فكرة السبب لم تعترض العقد عند تكوينه ولم تؤثر فيه تأثيرا مباشراً بأن تمنع نفاذه ، بل بقى العقد صحيحاً نافذاً . ولكن عند تنفيذه تظهر فكرة السبب ، فتوجب الاسترداد أو تمنع التنفيذ ، عن طريق الدعوى أو عن طريق الدفع .

على أن هناك ناحية ثالثة تأثر فيها العقد اللفظي بفكرة السبب تأثراً مباشراً كما أسلفنا القول . وقد كان ذلك في ناحية عقد القرض إذا كان واقعاً على مبلغ من النقود . فقد جرت العادة في القانون الروماني بان يتعهد المقترض برد القرض بعقد لفظي ، ثم بعقد مكتوب يكتب فيه الشرط اللفظي بدلا من التفوه به ، وذلك قبل أن يتسلم مبلغ القرض . فهو قد التزم قبل أن يتسلم شيئاً ، والتزامه صحيح ما دام دق استوفى الشكل المطلوب . فإذا أراد أن يستعين بدعوى الاسترداد . فعليه هو أن يثبت أنه لم يتسلم شيئاً حتى يلتزم برده ، ولا يكلف المقرض بإثبات السبب . وكان من وراء ذلك أن تعسف المقرضون بالمقترضين ، إذ كان هؤلاء يلتزمون مقدماً وقد لا يتسلمون شيئاً أو يتسلمون مبلغاً أقل من المذكور بالعقد ، ويقع عليهم مع ذلك عبء الإثبات إذا أرادوا التخلص من هذا الالتزام . فادخل قانون امبراطوري ( constitution imperiale تعديلا في هذه الأحكام يقضي بأنه إذا التزم المقترض ، واعترف كتابة أنه تسلم مبلغ القرض ، فله أن يقرر بطريق الدعوى أو بطريق الدفع أنه لم يتسلم في الواقع شيئاً ( querela non numeratea pecuniae ) ، وعلى المقرض إذا أراد استيفاء الالتزام أن يثبت أن المقترض قد تسلم القرض . ومعنى هذا أن الدائن في هذه الحالة مكلف أن يثبت وجود سبب للالتزام ، وإلا كان العقد غير نافذ . ومن هنا دخلت فكرة السبب في العقد اللفظي عن طريق مباشر ، فانعدام السبب يمنع نفاذ العقد ، ولا يقتصر على إباحة الاسترداد أو على التخلص من الالتزام بعد أن يصير العقد نافذاً ( [5] ) .

ويلاحظ أنه حتى عند ظهور هذا الأثر المباشر لفكرة السبب في العقد اللفظي ، فإن السبب لم يقم على أساس نفسي متصل بإرادة المتعاقدان بل قام على أساس موضوعي لا صلة له بهذه الإرادة . فهو قد قام على واقعة أن المقترض لم يتسلم القرض ، وأن العدالة تقضي في هذه الحالة إلا يلتزم بشيء نحو المقرض . فالسبب هنا كالسبب في الفرضين السابقين – دعوى الاسترداد والدفع بالغش – إنما قام على اعتبارات تتصل بالعدالة لا بالإرادة . وبقيت الشكلية في العقد اللفظي مانعة من ظهور السبب متصلا بالإرادة . ذلك أن الشكلية والإرادة في القانون الروماني ضدان لا يجتمعان ، وإذا طردت الشكلية الإرادة فإنها تطرد في الوقت ذاته السبب بمعناه النفسي وهو المعنى المتصل بالإرادة .

252 – ظهور السبب في العقود غير الشكلية : وقد ظهر إلى جانب العقود الشكلية في القانون الروماني عقود أخرى غير شكلية ، أهمها العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة وعقود التبرع . ولما كان أكثر هذه العقود تتدخل الإرادة في تكوينه ، فقد بدأت فكرة السبب تظهر بظهور الإرادة في تكوين العقد .

أما في العقود العينية – وهي القرض والعارية والوديعة والرهن – فإن الإرادة لم تكن ظاهرة ، وكان أساس الإلزام في هذه العقود هو تسليم العين إلى الملتزم ، فهو ملزم بردها لأنه تسلمها وإلا كان مثرياً دون سبب .

وعلى النقيض من ذلك العقود الرضائية – وهي البيع والإيجار والشركة والوكالة – فالإرادة فيها تتدخل في تكوين العقد ، بل هي وحدها كافية بتكوينه . ومن ثم ظهرت فكرة السبب في هذه العقود ظهوراً واضحاً . ففي عقد البيع التزام البائع سبب لالتزام المشتري ، بحيث إذا هلك المبيع قبل البيع فامتنع التزام البائع لانعدام المحل لم يقم التزام المشتري لانعدام السبب . ولكن فكرة السبب في عقد البيع كانت تقف عند هذا الحد ، فلا تجاوز مرحلة تكوين العقد إلى مرحلة تنفيذه ، ويظهر ذلك في امتناع الدفع بعدم التنفيذ وفي امتناع الفسخ وفي تبعة هلاك المبيع ، وكلها أمور ترجع إلى تنفيذ العقد وتتصل بفكرة السبب . فكان لا يجوز للمشتري أن يمتنع عن دفع الثمن حتى إذا امتنع البائع عن تسليم المبيع ، ولا يجوز للبائع أن يمتنع عن تسليم المبيع حتى لو امتنع المشتري عن دفع الثمن ، فالتزام كل المتعاقدين مستقل في تنفيذه عن التزام الآخر . ومن ثم امتنع الدفع بعدم التنفيذ . وإذا كان القانون الروماني جعل للمشتري فيما بعد دعوى الغش ليمتنع عن دفع الثمن حتى يتسلم المبيع ، وجعل للبائع الحق في حبس المبيع حتى يقبض الثمن ، فإن ذلك لم يكن أثراً لعقد البيع ذاته ، بل لاعتبارات ترجع للعدالة ، ولو كان البيع يوجد ارتباطاً بين التزامات كل من المتعاقدين لكان المنطق يقضي بأن تكون دعوى كل منهما ناشئة من عقد البيع ( action ex empto ) ( [6] ) . كذلك لم يكن لأحد من المتعاقدين فسخ البيع إذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ التزامه ، بل يبقى البيع ، ويطالب بتنفيذ الالتزام الذي لم ينفذ ، حتى لو كان المتعاقد المطالب بالتنفيذ لم يقم من جانبه بتنفيذ التزامه ، لأن التزام كل من المتعاقدين مستقل في تنفيذه عن التزام الآخر كما قدمنا . وإذا هلك المبيع بعد البيع وقبل التسليم ، كانت تبعة الهلاك على المشتري لا على البائع . وفي هذا إمعان في تأكيد الاستقلال ما بين التزام البائع والتزام المشتري عند التنفيذ . ذلك أنه إذا استحال على البائع لهلاك المبيع تنفيذ التزامه ، بقى المشتري مع ذلك ملزماً بدفع الثمن لاستقلال التزامه عن التزام البائع . ويبدو هذا الحل الروماني قاطعاً في المعنى الذي أسلفناه إذا لاحظنا أن البيع في القانون الروماني لم يكن ينشيء في ذمة البائع التزاماً بنقل الملكية ، ولم يكن المشتري يصبح مالكاً للمبيع بعقد البيع ذاته حتى يقال – كما قيل في القانون الفرنسي – إن المشتري يتحمل تبعة الهلاك لأنه أصبح مالكاً . ومن كل ذلك نرى أنه إذا وجد ارتباط ما بين التزام البائع والتزام المشتري عند تكوين عد البيع حتى صح أن يقال إن كلا منهما سبب للأخر ، فإن هذا الارتباط منعدم عند تنفيذ البيع ، بل يصبح كل التزام في تنفيذه مستقلا كل الاستقلال عن الالتزام الآخر ، وتقف فكرة السبب كما قدمنا عند تكوين البيع ، دون أن تجاوز مرحلة التكوين إلى مرحلة التنفيذ ( [7] ) .

وفي العقود غير المسماة ظهر السبب على الوجه الآتي : في عقد المقايضة مثلا إذا سلم أحد المتقايضين العوض الذي يملكه ، التزم الآخر بتسليم ما يقابله من العوض . وهذا الالتزام الأخير يقوم لا على إرادة الملتزم وحدها ، بل على هذه الإرادة مضافاً إليها أن سببها قد تحقق . ذلك أن سبب إرادة المتعاقد الآخر في أن يلتزم بتسليم ما عنده هو أن يتسلم ما عند المتعاقد الأول ، وقد تسلمه فعلا ، فتحقق السبب . فارادته هنا تؤخذ مقرونة بالسبب لا مجردة عنه ( [8] ) .

وفي الهبة – وهي أهم عقود التبرعات – اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حد كبير . فالتبرعات المحضة تقوم على نية التبرع ( animus donandi ) ، وهي السبب في التزام المتبرع . وتترتب على ذلك نتيجة هامة ، هي أنه إذا انعدمت هذه النية انعدم السبب وبطل التبرع . فمن تعهد بوفاء التزام طبيعي معتقداً أنه التزام مدني لا يكون متبرعاً ، ويبطل تعهده لانعدام السبب . والهبة المقترنة بشرط ( donatine sub modo ) يكون الشرط سبباً لها إذا كان هو الدافع إلى التبرع . فإذا لم يقم الموهوب له بتنفيذ الشرط ، كان للواهب أن يسترد هبته بدعوى استرداد ( condition causa data , causa non secuta ) ، وله أيضاً أن يجبر الموهوب له على تنفيذ الشرط . وفي الوصية – وهي إرادة منفردة – اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حد أن مزجه بالباعث . فإذا اعتقد الموصى أن وارثه قد مات فأوصى بماله لأجنبي ، وتبين أن الوارث لا يزال حياً ، واستطاع هذا أن يثبت أن الباعث على الوصية هو اعتقاد لموصى أن الوارث قد مات ، فالوصية باطلة لانعدام سببها ( [9] ) .

253 – موقف القانون الروماني من نظرية السبب : ويتبين مماقدمناه أن القانون الروماني اعترف في بعض العقود بفكرة السبب إلى مدى محدود . وهذه العقود هي التي ظهرت فيها الإرادة كعامل من عوامل تكوينها . وحيث تظهر الإرادة يظهر السبب . ولكن الرومان تمثلوا فكرة السبب فكرة موضوعية ( objectif ) لا ذاتية ( subjectif ) ، ونظروا إلى السبب موجوداً في العقد ( intrinseque ) لا خارجاً عنه ( extrinseque ) ، وهو واحد لا يتغير ( invariable ) في النوع الواحد من العقود مهما اختلفت البواعث والدوافع . وإذا كانوا قد توسعوا في السبب فمزجوه بالباعث ، فقد فعلوا ذلك في نطاق ضيق محدود ، وكان ذلك بنوع خاص في بعض التبرعات على النحو الذي بيناه ( [10] ) . وسنرى فيما يلي أن هذا التصوير الروماني هو الذي رجع إليه دوما ( Domat ) ، في صياغته لنظرية السبب .

وننظر الآن كيف تطورت نظرية السبب في القانون الفرنسي القديم ، قبل عهد دوما ومنذ ذلك العهد .

المطلب الثاني

نظرية السبب في القانون الفرنسي القديم

254 – عهدان : بقيت فكرة السبب تتطور تطوراً مستمراً طوال القرون السبعة التي سبقت التقنين المدني الفرنسي ، من القرن الثاني عشر إلى مستهل القرن التاسع عشر .

وفي خلال هذه القرون الطويلة يمكن التمييز بين عهدين يفصل بينهما الفقيه الفرنسي المعروف دوما ( Domat ) في القرن السابع عشر . إذ هو الذي صاغ فكرة السبب نظرية عامة ، بعد أن تهيأت لها عوامل الصياغة طوال القرون التي سبقته . ومنذ صاغ دوما نظرية السبب تبعته الفقهاء في صياغته ، وتناقلت عنه ما كتب ، حتى انتقلت النظرية عن طريق بوتييه ( Pothier ) إلى التقنين المدني الفرنسي .

فنحن نتابع تطور نظرية السبب في كل من هذين العهدين : ( 1 ) عهد ما قبل دوما ( 2 ) العهد الذي بدأه دوما .

1 – نظرية السبب في العهد الذي سبق دوما ( [11] )

255 – الرومانيون والكنسيون : تداول فكرة السبب في هذا العهد فريقان من الفقهاء : فريق الرومانيين ( romanistes ) وفريق الكنسيين ( canonists ) . فالرومانيون رجعوا للفكرة الرومانية في السبب ، وهي فكرة شكلية موضوعية كما قدمنا ، ولذلك لم تتقدم نظرية السبب على أيديهم أكثر مما كانت في القانون الروماني . أما الكنسيون فهم الذين خطوا بفكرة السبب خطوات جبارة ، فانتزعوها من أصلها الروماني إلى أفق أرحب ، وجعلوها فكرة مؤثر فعالة . وننظر الآن كيف كانت فكرة السبب عند كل من الفريقين .

256 – فكرة السبب عند فقهاء الرومانيين : عاد المحشون ( glossateurs ) إلى فكرة السبب الرومانية . وتطلبوا السبب في مختلف العقود . ولكن السبب عندهم كان أمراً شكلياً محضاً ، والمهم ليس هو وجوده بالفعل ، بل هو مجرد ذكره في الورقة المثبته للعقد .

أما البارتوليون ( Bartolistes ) فقد اقتفوا اثر من تقدمهم . وعنوا بنوع خاص بالعقود الملزمة للجانبين ، فأبرزوا الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة في هذه العقود ، ولكنهم مع ذلك التزموا حدود القانون الروماني ، فلم يصلوا إلى حد القول بجواز الفسخ في البيع إذا لم ينفذ أحد المتعاقدين التزامه ، بالرغم من أن منطق الارتباط ما بين الالتزامات المتقابلة كان يقضي عليهم بذلك . وميز البارتوليون ، كما فعل المحشون ، بين السبب والباعث ، فسموا الأول ” السبب القريب ” ( causa proxima ) وكان المحشون يسمونه ” السبب القصدي ” ( causa finalis ) ، وسموا الباعث ” السبب البعيد ” ( causa finalis ) . وجعلوا السبب دون الباعث هو الذي يؤثر في العقد . وهذا التمييز ما بين السبب والباعث غريب عن القانون الروماني ، وقد ابتدعه فريق الفقهاء الرومانيين مستلهمين فيه الفلسفة اليونانية . أما الرومان فكان السبب عندهم هو ما كانوا يسمونه ” بالسبب المدني ” ( causa civilis ) وهو السبب الإنشائي الذي عرفناه فيما تقدم وهذا شيء آخر غير السبب القصدي الذي عارضه الفقهاء الرومانيون بالباعث .

ويمكن القول بوجه عام إن فريق الفقهاء الرومانيين قد احيوا الفكرة الرومانية في السبب ، ولكنهم كما قدمنا لم يجاوزوا الحدود التي التزمها القانون الروماني . فبقيت فكرة السبب عندهم ، كما كانت عند الرومان ، فكرة موضوعية لا نفسية ، داخلة في العقد لا خارجة عنه ، وهي واحدة لا تتغير في نوع واحد من العقود .

257 – فكرة السبب عند فريق الفقهاء الكنسيين : أما فريق الفقهاء الكنسيين فقد كانوا يقدمون على اعتبارات الصياغة الفنية الرومانية اعتبارات أخرى أولى عندهم بالتقدم ، هي الاعتبارات الأدبية المسيحية . وهذه الاعتبارات الأخيرة كانت تقتضيهم أن يقرروا مبدأين :

المبدأ الأول أن الوفاء بالوعد واجب ، وأن الإخلال به خطيئة . ومن ثم كان المتعاقد يلتزم بمجرد تعهده . فكانت الإرادة عندهم – لا شالك – هي التي تنشئ العقد وتجعله ملزماً . وتدرج الفقهاء الكنسيون في هذا المبدأ حتى اقروا أي عقد يقوم على محض تقابل الإرادتين ، دون حاجة إلى شكل أو تسليم أو تنفيذ أو نحو ذلك مما كان القانون الروماني يتطلبه .

والمبدأ الثاني أن العقد لا يجوز تنفيذه إذا كان يهدف إلى عرض غير مشروع . ذلك أن القيام بعمل غير مشروع يعد خطيئة ، ولا يصح الاحتجاج بان المتعاقد قد ارتبط بالعقد ، والإخلال بما ارتبط به يعد خطيئة هو أيضاً . فالخطيئة ليست في أن يخل بهذا الارتباط ، بل في أن يرتبط بعقد غير مشروع . الارتباط بمثل هذا العقد يعتبر خطيئة ، وتنفيذه يعد خطيئة أخرى . وها نحن نرى إلى أي مدى يسوق هذا المنطق . فالغرض الذي يريد المتعاقد أن يحققه من وراء التزامه هو السبب في تعاقده . وهذا السبب إذا كان غير مشروع جعل العقد باطلا . وإذا كانت الإرادة وحدها تلزم المتعاقد ، إلا أن هذه الإرادة يجب أن تتجه إلى تحقيق غرض مشروع ، وإلا كانت عديمة الأثر . فيبرز أمامنا السبب في صورة أخرى غير الصورة التي ألفناها في القانون الروماني ، شيئاً غير مجرد الصياغة الفنية ، وعاملا نفسياً زاخراً بالقوة ، بعيداً في الأثر . ويبدو لأن في وضوح أن الفقهاء الكنسيين وضعوا إلى جانب الإرادة – بعد أن جردوها من الشكل – الغرض الذي ترمى إلى تحقيقه ، وربطوها به ، فأصبحت الإرادة لا تنفصل عن الغرض الذي تهدف إليه ، وهي إذا تجردت عن الشكل فليست تتجرد عن السبب . والسبب هنا ليس هو هذا السبب الروماني ، الموضوعي ، الداخل في العقد ، والذي يبقى واحداً لا يتغير في نوع واحد من العقود ، بل هو الباعث النفسي ، الخارج عن العقد ، والذي يتغير فيختلف في عقد عنه في العقد الآخر .

ونستطيع أن نستخلص من هذا التحليل الذي ابتدعه الفقهاء الكنسيون أموراً أربعة :

أولاً – أن السبب برز إلى جانب الإرادة بمجرد أن ظهرت الإرادة عاملا أساسياً في تكوين العقد .

ثانياً – أن فكرة السبب تطورت تطوراً خطيراً ، فأصبح السبب هو الباعث الدافع إلى التعاقد .

ثالثاً – أن السبب بهذا المعنى الجديد ل محل الشكل قيداً على الإرادة . فما دام الوعد القائم على الإرادة وحدها ملزماً دون حاجة إلى الشكل ، فلا أقل من أن يكون هذا الوعد متجهاً لتحقيق غاية مشروعة ، ومن هنا استطاع الكنيسون أن يداوروا مبادئ القانون الروماني فلا يتعارضون معه تعارضاً صريحاً ، وأمكنهم أن يتجنبوا ظاهراً القول بأن الاتفاق العاري ( pacte nu ) ملزم وحده ، وأن يستبدلوا بعبارة ” الاتفاق العاري ” عبارة ” الوعد المسبب ” ( promesse cause ) فيضيفوا إلى القائمة الرومانية للعقود الملزمة ( pacta vestita ) طائفة جديدة هي طائفة ” الوعود المسببة ” .

رابعاً – أن السبب إذا كان قد قيد الإرادة من جهة ، فهو قد اطلقها من جهة أخرى ، إذ حررها من الشكل ، وجعلها وحدها ملزمة مادامت تتجه لتحقيق ، غاية مشروعة .

فالكنسيون كما نرى هم الذين ابتدعوا نظرية السبب ، لا بمعناها الروماني الضيق ، بل بمعناها الجديد الواسع .

وإذا كانوا قد جعلوا من نظرية السبب بادئ الأمر أداة قوية لحماية المجتمع عن طريق إبطال العقود التي تتجه لتحقيق أغراض غير مشروعة ، فإنهم ما لبثوا أن جعلوا أيضاً من النظرية ذاتها أداة لحماية الفرد وتحرير اراداته من الغلط والتدليس والغش . ذلك إنهم أضافوا إلى السبب غير المشروع ، في إبطال العقد ، السبب غير الحقيقي . فإذا وقع غلط أو تدليس في الباعث على التعاقد ، كان السبب غير حقيقي ، وبطل العقد . ومن هنا اختلطت نظرية الغلط بنظرية السبب ، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك عند الكلام في نظرية الغلط .

هذا هو عمل الفقهاء من رجال الكنيسة ، إليه وحده يعود الفضل الأكبر في إيجاد النظرية الصحيحة للسبب . وقد تبع رجال الكنيسة في نظريتهم هذه بعض من الفقهاء المدنيين ( civilistes ) من أمثال لوازيل ( Loysel ) ( [12] ) وديمولان ( Dumoulin ) ، فقالوا بالإرادة وحدها مصدراً لتكوين العقد ، واصلين في هذا ما بين الإرادة والسبب ، وجاعلين للسبب المعنى الذي فهمه الفقهاء الكنسيون . وبقى فقهاء مدنيون آخرون ، من أمثال كونان ( Connan ) ودونو ( Doneau ) محافظين على تقاليد القانون الروماني ، فلا يسلمون بان الاتفاق العاري عقد ملزم ، ولا يفهمون السبب إلا في ضوء الفكرة الرومانية الضيقة . ولكن ما لبث الفريق الأول أن فاز على الفريق الثاني . فاعترف الفقه والقضاء في فرنسا بان الإرادة وحدها ملزمة مادامت الغاية التي تهدف لتحقيقها غاية مشروعة ، فوهم السبب بالمعنى الذي ابتدعه الكنسيون : الباعث الدافع إلى التعاقد . فأبطلت العقود التي تهدف لاستغلال النفوذ ، واعتبرت ديون المقامرة باطلة لعدم مشروعيتها ، وأصبح الباعث يؤثر في التبرعات .

وسارت الأمور على هذا النحو المحمود حتى جاء دوما يصوغ نظرية عامة للسبب . وننظر الآن ماذا فعل هذا الفقيه هو ومن وجاء بعده من الفقهاء .

2 – نظرية السبب منذ عهد دوما إلى عهد التقنين المدني الفرنسي ( [13] )

258 – العوامل الذي أثرت في هذا العهد وفقهاؤه البارزون : جاء دوما في القرن السابع عشر ، وبدأ عهداً جديداً كان من العهود الحاسمة في تاريخ تطور نظرية السبب . والعوامل البارزة التي كانت تؤثر في التفكير القانوني لرجال هذا العهد ثلاثة :

أولاً – انتكاص القانون الروماني وتقلص نفوذه . وقد أصبح تقسيم العقود إلى عقود شكلية وعقود غير شكلية ، وتقسيم العقود غير الشكلية إلى عقود عينية وعقود رضائية وعقود غير مسماة واتفاقات بريطورية واتفاقات شرعية ، كل هذه التقسيمات العتيقة أخذت تهجر فتسير في طريقها إلى الاندثار . على أن فريقاً من الفقهاء المدنيين ( civilistes ) بقوا متأثرين بالنظرية الرومانية في السبب كما قدمنا .

ثانياً – اثر القانون الكنسي . وقد رأينا رجال هذا القانون يتم على أيديهم فتح مبين في ميدان سلطان الإرادة ، فيقولون بان الإرادة وحدها ملزمة ، ويسير وراءهم في ذلك كثير من الفقهاء المدنيين .

ثالثاً – انتشار مبادئ القانون الطبيعي . وقد حمل لواءها جروسييس ( Grctius ) الفقيه الهولندي المعروف . وهي مبادئ توحي بنبذ ما يحوط الإرادة من أوضاع وأشكال رومانية عتيقة ، وتحكم العقل في كل ذلك فلا يتردد في إقصائها وتحرير الإرادة منها .

وهذه العهد الجديد بدأه دوما كما ذكرنا ، وطبعه بطابعه . وبقى اثر هذا الفقيه الفرنسي الكبير حياً في النفوس طوال الاجيال . واقتصر من جاء بعده من الفقهاء على ترديد ما كتبه في نظرية السبب ، دون أن يضيفوا إليها شيئاً يذكر ، غير الاسهاب في بعض التفصيلات . وابرز هؤلاء الفقهاء فقيهان : بريفو دي لاجانيس ( Prevot de la Janes ) وبوتييه ( Pothier ) . ونستعرض أولاً ما كتبه دوما في نظرية السبب ، ثم ننظر ما قاله بعده هذان الفقيهان .

259 – نظرية السبب عند دوما : لم يكن دوما مبتدعاً فيما كتبه في نرظية السبب . بل هو نفسه لم يكن يشعر أنه يقول شيئاً جديداً عندما كان يقرر هذه النظرية في كتابه ” القوانين المدنية ” . كان يبسطها بسطاً موجزاً ، دون مناقشة أو بحث ، كما يبسط أمراً من الأمور المقررة في عصره ، فلا يرى نفسه في حاجة إلى تمحيص ما يورده من الآراء أو الدفاع عنها باعتبار إنها آراء جديدة . لذلك كان من المبالغة أن يقال – كما قال كثيرون – إن دوما له حظ كبير من الابتداع في نظرية السبب . بل نحن لا نشارك أصحاب النظرية التقليدية في السبب ، من أمثال الفقهي الكبير كابيتان ، رأيهم من أن دوما له فضل عظيم في دعم نظرية السبب على أساس صحيح . فعندنا أن دوما قد أساء إلى نظرية السبب أكثر مما أحسن ، وعاق تطورها الطبيعي ، وأعادها إلى وضعها الروماني نظرية قاحلة مجدبة . والغريب أن دوما قد انقاد في هذا ، لا لحكم العقد وقواعد المنطق التي ألفها وسار عليها في كتابه ( [14] ) ، بل إلى البقية من اثر القانون الروماني التي تسربت إلى القانون الفرنسي القديم على أيدي الفقهاء الرومانيين ( romanistes ) وفريق من الفقهاء المدنيين ( civilistes ) الذين تأثروا بالأولين .

على أن لدوما مزيتين لا ينكران في هذا الشأن : ( اولاهما ) هذه النظرة الشاملة التي احاط بها موضوع السبب ، فصاغ منه نظرية عامة محبوكة الأطراف لم تكن قبله قد نسقت على النحو الذي قام به هو . كانت هناك أحجار مهيأة للبناء ، فشيد منها دوما بناء مدعما متماسكاً ، هو الذي انتقل منه إلى من بعده من الفقهاء ، ثم منهم إلى أصحاب النظرية التقليدية التي ظلت سائدة طوال القرن الماضي . ( والمزية الثانية ) أن دوما سجل في وضوح كامل ما وصل إليه عصره في تحرير الإرادة من الشكل والرسوم والأوضاع . فقد كانت التقسيمات الرومانية العتيقة لأصناف العقود قد دالت دولتها ، وزالت التفرقة بين الاتفاق العاري غير الملزم والعقود والاتفاقات الملزمة ، وأصبح كل اتفاق ملزماً . ويقرر الفقهي الكبير هذه الحقائق في عبارات جلية واضحة فيقول في كتابه ” القوانين المدنية ” ( [15] ) : ” كل اتفاق ، سواء أكان له اسم معين أم لم يكن ، ينتج أثره دائماً ويلزم بما تم الاتفاق عليه . . . ولم يعد هناك محل لأن نبسط ما كان القانون الروماني يقيمه من فروق بين العقود التي لها اسم معين والعقود التي لا اسم لها . فهذه التمييزات التي تنطوي على دقة زائفة لم تعد مقبولة في عرف عصرنا ، وهي مدعاة للاضطراب من غير ما فائدة ” . ويلاحظ أن دوما يقرر أن الإرادة وحدها ملزمة على اعتبار إنها حقيقة مقررة في عصره ، لا تحتاج إلى تمحيص أو مناقشة . فقد كانت القاعدة التي تقرر أن ” الاتفاق وحده ملزم ” ( Solus consensus obligat ) قد ظفرت في النهاية ، وفاز أنصارها على معارضيها من الفقهاء المدنيين المتأثرين بالقانون الروماني .

أما العيب الجوهري في نظرية دوما فهو أنه تأثر في هذه النظرية ، كما قدمنا ، بالفقهاء المدنيين الذين ظلوا أمناء للقانون الرومانين فنقل عنهم النظرية الرومانية الضيقة ( [16] ) . وهنا يتولانا شيء من العجب . فإن دوما ، وهو من أنصار المنطق والقانون الطبيعي ، وقد رأيناه يقول بالإرادة وحدها مصدراً للالتزام فيطاوع في ذلك الفقهاء المدنيين المتأثرين بالقانون الكنسي ، يرجع القهقري عندنا يتولى بسط نظرية السبب ، فلا يسير في منطقة إلى مداه ، ولا يقول مع هؤلاء الفقهاء المدنيين أنفسهم إن الإرادة بعد أن أطلقت من عقال الشكل وجب أن تتقيد بالغرض الذي اتجهت إلى تحقيقه فيكون الباعث هو السبب ، يأبى دوما أن يكون منطقياً في نظرته للإرادة والسبب ، ويرجع إلى الفكرة الرومانية ، فيجعل من السبب أمراً موضوعياً داخلياً لا يتغير في نوع واحد من العقود ! وقد يعلل ذلك أن دوما آثر دقة الصياغة الرومانية فجرى على منوالها ، ولكنه أضاع بذلك على القانون خصوبة النظرية الكنسية في السبب وما لها من مدى بعيد وأثر بالغ .

وهذا ما يقوله دوما وهو يبسط نظرية السبب ، بعد أن يقسم العقود أقساماً أربعة ، الثلاثة الأولى هي عقود معاوضة والقسم الأخير خصص لعقود التبرع : ” في الأقسام الثلاثة الأولى من العقود يجري التعامل دو أن يكون فيه أي تبرع ، ويكون التزام أحد المتعاقدين هو الأساس لالتزام الآخر . وحتى في العقود التي يظهر أن شخصاً واحداً فيها قد التزم ، كما في اقتراض مبلغ من النقود ، قد سبق التزام المقترض ما وجب أن يعطيه إياه الطرف الآخر حتى يتكون العقد . وعلى ذلك فالالتزام الذي ينشأ من مثل هذه العقود لمصلحة أحد المتعاقدين يوجد سببه دائماً في جانب الآخر . ويكون الالتزام باطل إذا لم يكن مبنياً في الواقع على سبب ” ( [17] ) . ثم يتابع دوما بسط نظريته ، وينتقل إلى عقود التبرع فيقول : ” وفي الهبات . . . يكون التزام الواهب أساسه غرض من الأغراض المعقولة الحقة ، كخدمة أسداها الموهوب له أو أية مزية أخرى فيه أو محض الرغبة في عمل الخير من جانب الواهب . وهذا الغرض يقوم مقام السبب بالنسبة إلى الطرف الذي أخذ ولم يعط شيئاً ( [18] ) ” . ويقد يفهم من هذه العبارات الأخيرة من دوما يرى أن السبب في التبرعات قد يكون هو الباعث ، كما كان الأمر في القانون الروماني على ما قدمنا . ولكنه في موضع آخر يعود إلى هذه المسألة فيقول : ” يجب في الهبات أن نميز تمييزاً واسعاً ما بين البواعث التي يعلن الواهبون إنها هي أسباب تبرعهم وبين الشروط التي يفرضونها في هباتهم . وذلك لأنه بينما أن الإخلال بالشرط في الهبة المقترنة بشرط يبطلها ، فإن الهبة تبقى قائمة حتى لو تبين أن البواعث التي ذكرت فيها ليست صحيحة . فلو أنه ذكر في هبة إنها تمت لخدمات أسديت أو لتمكين الموهوب له من أن يمتلك شيئاً يريده ، فإن الهبة لا تبطل حتى لو ظهر أنه لم تكن هناك خدمات أسديت أو أن الامتلاك لم يتم . وذلك لأن إرادة من وهب تبقى دائماً قائمةً ، وقد تكون له بواعث أخرى غير التي أعلنها ( [19] ) ” . ويستخلص الأستاذ كابيتان من هذه العبارات أن دوما يميز في عقود التبرع بين السبب والباعث ، فالسبب هو الذي يؤثر في صحة التبرع ، أما الباعث فلا اثر له ( [20] ) .

ويتبين مما قدمناه أن دوما يشترط قيام السبب في جميع العقود . فالسبب في التزام المتعاقد . فالسبب في التزام المتعاقد في العقود الملزمة للجانبين هو ما يقوم به المتعاقد الآخر ، أي التزامه المقابل ، والسبب في التزام المتعاقد في العقود الملزمة لجانب واحد هو ما قام به المتعاقد الآخر ، أي التسليم التي تم من جانبه في مبدأ الأمر . والسبب في التبرعات هو إرادة المتبرع في أن يتبرع ، أي نية التبرع . ومن ذلك نرى أن نظرية دوما في السبب قامت على الفكرة الرومانية الضيقة ، وتأثرت بأقوال الفقهاء المدنيين احتفظوا بتقاليد القانون الروماني .

260 – نظرية السبب عند خلفاء دوما من الفقهاء : ولم يزد الفقهاء الذين خلفوا دوما في القانون الفرنسي القديم على أن يرددوا ما قاله دوما في نظرية السبب . وابرز هؤلاء الفقهاء ، كما قدمنا ، فقيهان : بريفو دى لا جانس وبوتييه .

كان بريفو دي لاجانس ( Prevot de la Janes ) أستاذاً للقانون في جامعة اورلبان في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، وقد توفى في سنة 1749 . ذكر في كتاب له ( [21] ) أن الرضاء يجب أن يكون مبنياً على سبب ( fonde sur quelque cause ) . وعرف السبب بأنه الغرض ( motif ) الذي دفع ا لمتعاقد إلى الالتزام . ولكنه بين ما يريد بكلمة ” الغرض ” عند الكلام في البيع ، فذكر أن السبب في التزام كل من المتعاقدين هو التزام المتعاقد الآخر المقابل له . فالسبب عنده في العقود الملزمة للجانبين هو السبب ذاته عند دوما ( [22] ) .

أما بوتييه ( Pothier ) الفقيه الفرنسي المعروف – وقد خلف بريفو دي لاجانس في استاذية القانون بجامعة اورليان – فكان أوضح بياناً من سلفه في بسط نظرية السبب ، ولكنه لم يخرج كثيراً عما قاله دوما في هذه النظرية . ذكر في كتاب ” الالتزامات ” ( [23] ) ما يأتي : ” يجب أن يكون لكل التزام سبب شريف ( cause honnete ) . ففي عقود المعاوضة يكون السبب في الالتزام الذي يعقده اد الطرفين هو ما أعطاه له الطرف الآخر ، أو ما يلتزم بإعطائه له ، أو التبعة التي يتحملها . وفي عقود التبرع يكون الجميل الذي يقصد أحد المتعاقدين أن يسديه للأخر سبباً كافياً للالتزام الذي يعقده قبله . أما إذا لم يقم الالتزام على أي سبب ، أو ما يعدل ذلك إذا كان السبب الذي عقد من اجله الالتزام غير صحيح ، فالالتزام باطل ، ويبطل العقد الذي يتضمنه ” . ثم ينتقل بوتييه إلى السبب غير المشروع فيقول : ” إذا كان السبب الذي عقد من اجله الالتزام سبباً يجرح العدالة أو حسن النية أو الآداب ( cause qui blesse la justice , la bonne foi ou les bonnes moeurs ) ، فالالتزام باطل ، ويبطل العقد الذي يتضمنه ( [24] ) ” .

ونرى من ذلك أن بوتييه ردد في وضوح وإسهاب ما سبقه إليه دوما . وإذا كان قد زاد عليه في التفصيل ، ففي المسائل الثلاث الآتية : ( 1 ) لم يكشف بأن يحدد السبب في العقود الملزمة للجانبين والعقود الملزمة لجانب واحد ، بل حدده أيضاً في العقود الاحتمالية وجعله التبعة التي يتحملها المتعاقد . ( 2 ) ذكر في وضوح أن السبب في التبرعات هو نية التبرع ، وكان دوما غير واضح في ذلك وضوحاً كافياً كما رأينا . ( 3 ) أفاض في ذكر السبب غير المشروع وقرنه بالسبب غير الموجود والسبب غير الصحيح ، فوضع الأساس لشروط السبب في النظرية التقليدية ( [25] ) .

وقد نقل قانون نابليون نظرية السبب عن دوما وبوتييه في المواد 1108 و 1131 – 113 . وصارت هذه النصوص هي الأساس الذي تقوم عليه النظرية التقليدية في السبب .

هذا هو تاريخ تطور نظرية السبب ، أوردناه في شيء من التفصيل حتى نتبين أن هذه النظرية قد انتقلت إلى القانون الحديث وهي تحمل أثراً واضحاً من ذكريات ماضيها ، سواء في ذلك النظرية التقليدية أو النظرية الحديثة . وننتقل الآن لبسط نظرية السبب في القانون الحديث .


 ( [1] ) وأول من قال بهذه المقارنة المشهورة بين المحل والسبب هو الأستاذ اودو ( Audot ) ، ثم نقلاه عنه كثير من الفقهاء : اوبرى ورو 4 ص 546 هامش رقم 2 – هيك 7 ص 75 – ديمولومب 24 فقرة 345 وفقرة 355 – لوران 16 فقرة 109 – بودري وبارد 1 فقرة 297 وفقرة 302 – ديموج 2 فقرة 744 – بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 279 .

 ( [2] ) أنظر آنفاً فقرة 68 .

 ( [3] ) لم يقتصر ” السبب المدني ” ( causa civilis ) في القانون الروماني على العقود الشكلية ، بل كان بوجه عام هو المصدر القانونين الذي يكون العقد ويضفى عليه قوته الملزمة . ومن ثم يكون ” السبب المدني ” للعقود الشكلية هو الشكل ، وللعقود العينية هو تسليم الشيء ، وللعقود الرضائية هو مجرد الاتفاق ، وللعقود غير المسماة هو قيام أحد المتعاقدين بتنفيذ التزاماته ، وهكذا .

 ( [4] ) ومن ثم كان أول مظهراً لفكرة السبب في تطورها مظهر اتخذت فيه صورة الإثراء بلا سبب ، على فرق ما بين معنيي ” السبب ” في الحالتين .

 ( [5] ) وقد عدلت القاعدة بعد ذلك وأصبح عء الإثبات لا يقع على المقرض إلا إذا لم يذكر في العقد المكتوب أن الالتزام له سبب في نفذ ( cautio discreta ) أي إذا لم يعترف المدين كتابة أنه تسلم مبلغ القرض . فإذا اعترف بهذا كان هو المكلف بإثبات أنه لم يتسلم . ولم تقف القاعدة عند حد عقد القرض الواقع على مبلغ من النقود ، بل جاوزت هذا العقد إلى عقد المهر ، ثم إلى عقد القرض الواقع على المثليات غير النقود : وعممت القاعدة بعد ذلك ، فأصبحت تشمل جميع العقود ( أنظر كابيتان في السبب فقرة 44 – بلانيول وريبير وبولانجيه جزء 2 فقرة 284 ) .

 ( [6] ) أنظر كابيتان في السبب ص 94 .

 ( [7] ) أما في عقد الإيجار فإن الارتباط يجاوز التكوين إلى التنفيذ ، إذ كانت الأجرة في هذا العقد تقابل الانتفاع ، فإذا تعذر الانتفاع ولو بقوة قاهرة ، عند تكوين العقد أو عند تنفيذه ، فإن الأجرة لا تجب . وإذا تأخر المستأجر عن دفع الأجرة مدة سنتين ، كان للمؤجر الحق في استرداد العين المؤجرة ( كابيتان في السبب ص 98 ) . ويرجع هذا إلى أن عقد الإيجار عقد زمني ، الزمن فيه عنصر جوهري ، وهو محل العقد ذاته .

 ( [8] ) وإذا لم يقم المتعاقد الآخر بتنفيذ التزامه من تسليم ما عنده للمتعاقد الأول ، كان لهذا أن يطالبه بالتنفيذ كما قدمنا . وكان له أيضاً أن يسترد ما سلمه بدلا من المطالبة بالتنفيذ . وقد يكون هذا أثراً من دعوى الاسترداد التي كانت للمتعاقد الأول قبل الاعتراف بالقوة الملزمة للعقود المسماة ، أو قد يكون الحق في الاسترداد نتيجة لفسخ العقد ، وفي هذا اعتراف بالسبب فهو الذي بنى على تخلفه فسخ العقد ( كابيتان في السبب فقرة 51 ) .

 ( [9] ) كاتبيتان في السبب فقرة 55 .

 ( [10] ) على أن هذا التصوير الخاص لفكرة السبب لم يكن إلا نتيجة للصياغة الرومانية الشكلية ، فلم تضع الرومان أية نظرية للسبب ، بل إنهم كانوا إذا أطلقوا كلمة ” السبب ” قصدوا بها ” السبب المدني ” ( causa civilis ) الذي رأيناه فيما تقدم .

 ( [11] ) أنظر بنوع خاص في هذا العهد كابيتان فيا لسبب فقرة 57 – فقرة 77 – شيفرييه ( chevrier ) في تاريخ السبب في الالتزامات باريس سنة 1 929 – بوا جيزان ( Bois – Juzan ) في السبب في القانون الفرنسي بوردو سنة 1939 ص 110 – ص 144 – والمراجع المشار إليها في هذه المؤلفات .

 ( [12] ) وهو صاحب المثل المشهور : ” يربط البقر بقرونه ، ويربط الرجل بكلامه ، ومجرد الوعد أو الاتفاق يعدل العقود اللفظية في القانون الروماني ” ‘ On lie les boeufs par les cornes et les homes par los parcels p et autant vaut une simple promesse ou convenance que les stipulations du Droit Romain’ . ( Inst . cont . max . 357 )

 ( [13] ) أنظر بنوع خاص في هذا العهد : كابيتان في السبب فقرة 77 – فقرة 80 – شيفرييه ص 246 – وما بعدها – تمبال ص 88 وما بعدها – يوناسكو ص 42 وما بعدها – بواجيزان ص 144 وما بعدها .

 ( [14] ) فقد كان دوما من دعاة القانون الطبيعي ، وعرف بأنه هو الذي احيي التفكير المنطقي في الفقه المدني ، فوضع كتابه المشهور ” القوانين المدنية وفقاً للنظام الطبيعي ” ( Lois Civiles dans leur ordre naturel ) ، ولم ينهج فيه نهج من سبقه من الفقهاء في شرح نصوص القانون الروماني ( Corpus Juris Civilis ) ، بل كان لا يرجع إلى هذه النصوص إلا لتكون مؤيدة لما يقرره من أحكام العقل والمنطق ، فيكون ذلك ابلغ في الاقناع وادعى إلى الاطمئنان ( mettre l’esprit en repos ) كما يقول .

 ( [15] ) الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول فقرة 7 .

 ( [16] ) ويذكر كابيتان في كتابه في السبب ( ص 160 – ص 163 و ص 163 هامش رقم 1 ) أن دوما تأثر في نظريته في السبب بفقهاء مدنيين ينتمون إلى الفقهاء الرومانيين ، من أمثال كونان ( Connan ) و دونو ( Doneau ) أنظر أيضاً في هذا المعنى بلانيول وربيير وبولانجيه 2 فقرة 287 .

 ( [17] ) ” القوانين المدنية ” الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول – وقرر دوما في موضع آخر من الكتاب أن الالتزام قالذي قام على سبب انقطع بعد ذلك يصبح باطلا ( الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول فقرة 13 ) ، فهو يستصحب السبب من تكوين العقد إلى تنفيذه .

 ( [18] ) ” القوانين المدنية ” الكتاب الأول – الباب الأول – الفرع الأول .

 ( [19] ) ” القوانين المدنية ” الكتاب الأول – الباب العاشر – الفرع الأول فقرة 13 .

 ( [20] ) كابيتان في السبب فقرة 79 . قارن بواجيزان ( ص 150 – ص 155 ) وهو يستخلص من هذه العبارات أن دوما يعتد بالباعث في التبرعات ، ويجعل له أثراً في صحتها – ويبدو أن دوما يميز بين الباعث الدافع للهبة ، ومظهره أن يكون شرطاً مفروضا في العقد ، وهو يؤثر في صحة التبرع ، وبين الدوافع التي تذكر في العقد دون أن تفرض شروطاً ، وهذه لا تؤثر لاحتمال أن يكون هناك دوافع أخرى حملت على التبرع .

 ( [21] ) ( Principes de la Juris . Fr . Suivant l’ordre . des actions . ) القسم الثاني – الباب الثامن – الفصل الثاني .

 ( [22] ) كابيتان في السبب فقرة 80 – ويرى بريفودي لاجانس أن التعهد المكتوب يكون ذا سبب صحيح إذا ذكر المتعهد أنه يقر بمديونيته ويتعهد بالدفع ، فالإقرار بالمديونية سبب كاف للالتزام ( بواجيزان ص 158 – ص 159 ) .

 ( [23] ) فقرة 42 .

 ( [24] ) ” الالتزامات ” فقرة 43 .

 ( [25] ) وزاد بوتييه أيضاً في أنه مير بين السبب بمعنى مصدر الالتزام والسبب بمعنى الغرض الذي يقصد إليه الملتزم ، فوضع بذرة التقسيم الثلاثي للسبب الذي سنراه في النظرية التقليدية .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

الاتفاقات التي تخالف الآداب

الاتفاقات التي تخالف الآداب

238 – العلاقات الجنسية : كل اتفاق على إيجاد علاقات جنسية غير مشروعة باطل لمخالفته للآداب . كذلك يكون باطلا كل تعهد يلتزم بمقتضاه شخص أن يؤجر شخصاً آخر في مقابل إيجاد علاقات جنسية معه ، أو في مقابل استمرار هذه العلاقات ، أو العودة إليها إذا كانت قد انقطعت . أما إذا كان المال الذي يتعهد الشخص بدفعه إنما هو على سبيل التعويض لما أصاب الشخص الآخر من ضرر من جراء العلاقات الجنسية ، فالتعهد صحيح ، بل هو اعتراف بالتزام طبيعي .

239 – بيوت العهارة : وكل اتفاق يتعلق باستغلال بيوت العهارة يعتبر باطلا لمخالفته للآداب ، ولو كانت هذه البيوت قد حصلت على ترخيص إداري . فبيع بيت يدار للعهارة ، وإيجاره ، وشراء مفروشات له ، واستئجار أشخاص ليقوموا بالخدمة فيه ، وإنشاء شركة لاستغلاله ، وإقراض مال للإعانة على إدارته ، كل هذه عقود باطلة لمخالفتها لأداب . وسنرى عند الكلام في السبب أن هذه العقود تكون باطلة كذلك حتى لو وقعت على بيت لم يكن معداً للعهارة وقت صدورها ، إذا تبين أن الباعث لأحد المتعاقدين على التعاقد هو أعداد البيت للعهارة وكان المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث .

240 – المقاصرة : ويكون باطلا كل اتفاق خاص بمقارمة أو رهان لمخالفته للآداب ، ولمن خسر أن يسترد ما دفعه في خلال ثلاث سنوات من الوقت الي أدى فيه ما خسره ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك ( م 739 من القانون المدني الجديد ) . ويستثنى من ذلك الرهان الذي يعقده فيما بينهم المتبارون شخصياً في الألعاب الرياضية ، ولكن للقاضي ان يخفض قيمة هذا الرهان إذا كان مبالغاً فيه ، ويستثنى أيضاً ما رخص فيه قانوناً من أوراق النصيب ( م 740 من القانون المدني الجديد ) . ويعد باطلا بيع بيت يدار للمقامرة وإيجاره وكل ما يقع عليه من العقود بقصد استغلاله للمقامرة ، سواء في ذلك كان البيع معداً للمقامرة قبل صدور العقد ، ويكون المحل في هذه الحالة مخالفاً للآداب ، أو لم يكن معداً لها ما دام الباعث على التعاقد هو أعداد البيت للمقامرة ، ويكون المخالف للآداب في هذه الحالة هو السبب لا المحل كما رأينا في بيوت العهارة .

241 – أمثلة أخرى لاتفاقات مخالفة للآداب : ويعد مخالفاً للآداب كسب المال من طريق غير شريف . فمن يتقاضى أجراً جزاء القيام بعمل كان يجب عليه القيام به دون اجر لا يستحق هذا الأجر ويكون عقده باطلا ، كمن يتعهد برد وديعة عنده أو مال اقترضه أو شيء سرقه في مقابل اجر يأخذه . كذلك لا يجوز أن يتقاضى شخص أجراً للامتناع عن عمر يجب عليه الامتناع عنه دون اجر ، كمن يتعهد بعدم ارتكاب جريمة في مقابل اجر لذلك . ولا تجوز الخديعة ولا الانحراف عن واجب الذمة في التعامل . فالاتفاق على ألا يعترف شخص بمسئوليته ولو أدى ذلك إلى أن يكذب يكون باطلا لأنه مخالف للآداب . وكان القضاء الفرنسي يبطل الاتفاق الذي يتم ما بين مدير المسرح وجماعة من الناس يسمون بالهتافة ( claque ) يستأجرهم المدير للتصفيق وترويج ما يعرض على المسرح ، لأن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يخدع الجمهور . ثم رجع القضاء عن ذلك ، وأصبح الآن يقضي بصحة هذا الاتفاق لأن الهتافة قد يؤدون خدمة للفن بتشجيعهم للممثلين وأصحاب الفن المبتدئين . ولا يعد باطلا اتفاق أحد النسابة ( genealogiste ) مع وارث على أن يكشف له عن نسبه ليحصل على ميراث يستحقه ، مادام النسابة لم يخدع من تعاقد معه ، بل كشف له عن سر حقيقي كان يجهله

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

قوانين أردنية  مهمة :

قانون التنفيذ الأردني وفق أحدث التعديلات

قانون العقوبات الأردني مع كامل التعديلات 

قانون التنفيذ الأردني مع التعديلات

 قانون المخدرات والمؤثرات العقلية

القانون المدني الأردني

قانون أصول المحاكمات الجزائية

قانون الملكية العقارية الأردني

قانون الجرائم الإلكترونية

قانون محاكم الصلح

جدول رسوم المحاكم

قانون العمل الأردني

قانون البينات الأردني

قانون أصول المحاكمات المدنية

 

 

مواضيع قانونية مهمة :

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

جريمة النصب في القانون المغربي

الذم والقدح والتحقير والتشهير

انعدام الأهلية ونقصها 

صفة التاجر مفهومها وشروطها

جريمة إساءة الأمانة

أحدث نموذج عقد إيجار

عقد البيع أركانه وآثاره

 

 

 

لاتفاقات التي تخالف النظام العام

الاتفاقات التي تخالف النظام العام

229 – روابط القانون العام وروابط القانون الخاص : حاول بعض الفقهاء حصر النظام العام في دائرة روابط القانون العام ، وهذه نظرة فردية متطرفة يكذبها الواقع ، فإن النظام العام يدخل دون شك في روابط القانون الخاص ، ولا يقتصر على دائرة القانون العام . وقد أريد التمييز في روابط القانون الخاص بين روابط الأحوال الشخصية وروابط المعاملات المالية ، فالأولى تعتبر من النظام العام والأخرى لا تعتبر كذلك ، وهذه أيضاً نظرة ضيقة للنظام العام ، فمن روابط المعاملات المالية ما يحقق مصلحة عامة كما يتبين ذلك من التطبيقات التي سنوردها .

1 – روابط القانون العام

230 – أنواع هذه الروابط : القانون العام ينظم روابط الأفراد بالهيئات العامة وروابط الهيئات العامة بعضها ببعض . وهذا التنظيم ينظر فيه إلى المصلحة العامة ، فلا يجوز للأفراد أن يتفقوا على ما يتعارض مع هذه المصلحة تحقيقاً لمصالحهم الفردية .

ويشمل القانون العام فيما يشمله : ( 1 ) القواعد الدستورية والحريات العامة . ( 2 ) النظم الإدارية والمالية . ( 3 ) النظام القضائي . ( 4 ) القوانين الجنائية . ونورد أمثلة لكل فرع من هذه الفروع .

231 – القواعد الدستورية والحريات العامة : فالقاعدة الدستورية التي تقرر حرية الترشيح والانتخاب تعتبر من النظام العام ، ولا يجوز لمشرح أن ينزل عن ترشيحه لمرشح آخر بمقابل أو بغير مقابل ، كما لا يجوز لناخب أن يتفق مع مرشح على إعطائه صوته ، وكل اتفاق من هذا القبيل باطل لمخالفته للنظام العام . كذلك النائب في هيئة تشريعية حر في تكوين رأيه في المسائل التي تعرض على الهيئة التي ينتمي إليها ، فلا يجوز أن يقيد نفسه باتفاق على أن يجعل صوته لرأي معين ، كما لا يجوز له النزول عن عضويته .

والحريات العامة التي قررها الدستور هي أيضاً من النظام العام ، وذلك كالحرية الشخصية . وما يتفرع عنها من حرية الإقامة ، وحرية الزواج ، وحرمة النفس والحرمة الأدبية . وحرية الدين والاعتقاد ، وحرية الاجتماع ، وحرية العمل والتجارة .

فلا يجوز لأحد النزول عن حريته الشخصية ( أنظر المادة 49 من القانون المدني الجديد ) . ولا يجوز لأحد أن يتعهد بخدمة آخر طول حياته أو طول حياة المخدوم ، فإذا كان عقد العمل لمدة حياة العامل أو رب العمل أو لأكثر من خمس سنوات ، جاز للعامل بعد انقضاء خمس سنوات أن يفسخ العقد دون تعويض على أن ينظر رب العمل إلى ستة أشهر ( أنظر الفقرة الثانية من المادة 678 من القانون المدني الجديد ) .

وتنص المادة السابعة من الدستور على أنه ” لا يجوز إبعاد مصري من الديار المصرية . ولا يجوز أن يحظر على مصري الإقامة في جهة ما ولا أن يلزم الإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون ” ومع ذلك يجوز أن يتقيد شخص بتحديد محل إقامته لمدة معينة إذا كان هناك سبب مشروع لذلك ، كما يجوز أن يتعهد شخص بعدم الإقامة في جهة معينة إذا وجد مبرر قوي لهذا التعهد . وفي الحالتين يكون جزاء الإخلال بالالتزام هو التعويض لا التنفيذ العيني .

وحرية الزواج من النظام العام . فإذا تعهد شخص إلا يتزوج مطلقاً ، كان هذا التعهد في الأصل باطلا ، كما إذا تعهدت امرأة لخليلها السابق إلا تتزوج أصلاً . ومع ذلك قد يكون التعهد صحيحاً إذا وجد سبب مشروع يبرره ، كما إذا تعهدت زوجة لزوجها إلا تتزوج بعد ترملها وكان لها من زوجها أولاد يريد الزوج أن يكفل لهم رعاية أمهم بعد موته . وإذا كان التعهد صحيحاً ، فلا يكون جزاء الإخلال به بطلان الزواج ، بل يدفع المتعهد تعويضا عن إخلاله بالتزامه ، ويغلب أن يكون الجزاء هو حرمان المتعهد من الهبة أو الوصية التي أعطيت له أو من المعاش الذي رتب له . وإذا تعهد شخص بان يتزوج من شخص معين ، فهو غير مقيد بتعهده ، ويجوز له العدول عن هذه الخطبة أو عن هذا التعهد ، ولا يكون مسئولا بمقتضى العقد وإن جاز أن يلتزم بالعمل غير المشروع لفسخه الخطبة في وقت غير لائق أو لارتكابه خطأ .

وللنفس حرمة لا يجوز انتهاكها باتفاقات تتعارض مع سلامتها . فيكون باطلا كل اتفاق يتعهد بمقتضاه شخص أن يعرض سلامته لخطر لا توجبه الضرورة ، كالاتفاق على المبارزة أو الملاكمة أو المصارعة ، وأن كان هناك ميل في الوقت الحاضر إلى إباحة التعاقد في الألعاب الرياضية حتى لو كانت عنيفة كالملاكمة والمصارعة لانتشار هذه الألعاب ورضاء الرأي العام عنها . وكحرمة النفس الحرمة الأدبية لا يجوز انتهاكها . فلا يصح أن تنازل مؤلف عن حقه الأدبي في إدخال ما يراه من التعديل على تأليفه ، حتى لو كان قد نزل عن حقوقه المادية في مؤلفه .

ويكون باطلا كل اتفاق يقيد من حرية الشخص في اعتناق الدين الذي يختاره ، وكل اتفاق يقيد الشخص بعقيدة معينة أو بمذهب معين من مذاهب التفكير .

ولكل شخص الحق في أن يجتمع مع غيره ، في هيئة أو جماعة ، وأن ينتمي إلى ما يشاء من الجمعيات ما دام الغرض الذي تألفت من اجله هذه الجمعيات مشروعاً . وأكثر ما يطبق هذا المبدأ في حالة نقابات العمال ، فلكل عامل الحق في الانضمام إلى النقابة التي يختارها ، وهو حر كذلك في إلا ينضم إلى نقابة ما . على أنه قضى بصحة اتفاق تعهد صاحب العمل بمقتضاه إلا يستخدم من العمال إلا من كان منضما إلى نقابة ، فتقيدت بذلك حرية العامل على نحو ما في أن يبقى بعيداً عن النقابات ( [1] ) .

ولكل شخص الحرية الكاملة في اختيار العمل الذي يتخذه حرفة له وفي القيام بما يشاء من أنواع التجارة . ولا يجوز أن يحرم شخص من هذه الحرية ولو رضى بهذا الحرمان . وأكثر ما ترد القيود الاتفاقية على حرية التجارة والعمل في عقود بيع المتاجر وفي عقود العمل . فإذا باع صاحب المتجر متجره ، فهو ملزم بضمان تعرضه الشخصي بمقتضى عقد البيع ذاته . ولا يجوز له بناء على ذلك أن يدير متجراً آخر ينتزع به عملاء المتجر القديم ، وإلا كان متعرضاً للمشتري ووجب الضمان . ولكن المشتري لا يكتفي عادة بهذا الضمان الذي يقرره القانون ، بل يشترط في عقد البيع أن يكف البائع عن العمل في هذا النوع من التجارة . كذلك كثيراً ما يشترط صاحب العمل على من يستخدمه في عمله إلا يلتحق بعمل مماثل إذا انقطع عن عمله الأول ، فيأمن بذلك على اسرار الصنعة أن يستغلها العامل في مناقسته بعد أن يكون قد ألم بها عنده . فإذا تعهد شخص بألا يعمل في تجارة معينة أو يلتحق بفعل معين ، فقد قيد بذلك من حريته في التجارة والعمل . وقد يكون هذا القيد مخالفاً للنظام العام . وكان القضاء في فرنسا وفي مصر يبطل القيد لمخالفته للنظام العام إذا كان مطلقاً غير محدود لا بزمان ولا بمكان . أما إذا قدي بزمان ، كأن يتعهد الشخص بأن يمتنع عن العمل أو التجارة مدة معينة ، أو بمكان ، كان يلتزم المتهم بالامتناع عن العمل أو التجارة في مكان معين ، كان التعهد صحيحا ( [2] ) . تم بدا ميل من جانب القضاء إلى العدول عن هذه القواعد الجامدة واستبدال معيار مرن بها ، فلا يكون المدار في الصحة والبطلان أن يتقيد التعهد بزمان أو بمكان أو لا يتقيد ، بل المهم أن يكون التعهد معقولا ( raisonnable ) لا تعسف فيه . ولا يكون هناك تعسف إذا كان التعهد لازماً لحماية الدائن من منافسة المدين غير المشروعة حتى لو كان هذا التعهد مطلقاً من كل قيد في الزمان أو في المكان ، ويكون التعهد باطلا إذا ما زاد عن الحد اللازم لهذه الحماية المشروعة حتى لو كان مقيداً في الزمان وفي المكان . فالعبرة إذن بمعقولية التعهد لا بتقييده ( [3] ) . وقد جاء القانون المدني الجديد مؤيداً هذا المعيار المرن ، فاشترط لصحة القيد أن يكون مقصوراً من حيث الزمان والمكان ونوع العمل على القدر الضروري لحماية مصالح رب العمل المشروعة ( م 686 ) ، وإذا اتفق على شرط جزائي في حالة الإخلال بالامتناع عن المنافسة وكان في الشرط مبالغة تجعله وسيلة لإجبار العامل على البقاء في خدمة رب العمل مدة أطول من المدة المتفق عليها كان هذا الشرط باطلا وينسحب بطلانه أيضاً إلى شرط عدم المنافسة في جملته ( م 687 ) ( [4] ) .

323 – النظم الإدارية والمالية : كذلك النظم الإدارية والمالية تحقق مصلحة عامة ، فهي إذن من النظام العام . ولا يجوز للأفراد ، باتفاقات خاصة ، أن يعارضوا تحقيق هذه المصلحة .

فيحرم على الموظف أن يبيع وظيفته أو أن ينزل عنها لآخر ، على أن الوظيفة ذاتها شيء لا يجوز التعامل فيه فلا يصح أن يكون محلا لتصرف ما . كذلك لا يجوز للموظف أن يتعهد لشخص آخر بأن يستقيل من وظيفته ، سواء رمى من وراء هذه الاستقالة إلى تحقيق رغبة لدى هذا الشخص ، أو قصد منها أن يترك له وظيفته خالية حتى يتمكن من الحصول عليها . وكل عقد يرمي إلى جعل الموظف يستفيد من وراء وظيفته ، كأن يتعاقد على شيء متصل بأعمال الوظيفة فيجني من وراء ذلك ربحاً ، يكون عقداً باطلاً لمخالفته للنظام العام . وليس الأمر مقصوراً على الموظف ، فكل وسيط يبذل وساطته في نظير مقابل يحصل عليه للوصول إلى نتيجة تحتم النزاهة في الإدارة أن يكون الوصول إليها دون مقابل أو وساطة إنما يقوم بعمل غير مشروع ، ويكون تعاقده باطلا . فاتفاق الوسيط مع شخص على جعل يأخذه الوسيط إذا مكن هذا الشخص من الحصول على وظيفة أو على رتبة أو على وسام أو على امتياز من الحكومة أو ” مقاومة ” يرسو ” العطاء ” عليه فيها أو نحو ذلك يكون اتفاقاً باطلا لمخالفته للنظام العام ( [5] ) . كذلك لا يجوز للموظف أن يقوم بعمل تجاري محرم عليه بل إن هناك من المهن ، كالطب والمحاماة ، ما ينظم تنظيماً إدارياً ، ولا يجوز لمن يمارسها أن يخلط بينها وبين أعمال التجارة ( [6] ) .

وإذا فرض قانون ضريبة وجب دفعها دون زيادة أو نقص . فإذا اتفق البائع والمشتري على ذكر ثمن في عقد البيع أقل من الثمن الحقيقي حتى تؤخذ رسوم التسجيل على الثمن المذكور في العقد ، ففي مثل هذه الحالة تكون العبرة بالثمن الحقيقي لا بالثمن الصوري المكتوب . ولا يجوز كذلك الاتفاق على جعل الملزم بدفع الضريبة شخصاً آخر غير الذي عينه القانون . لكن يجوز أن يتفق المؤجر والمستأجر على أن يقوم الثاني بدفع الضريبة المفروضة على العين المؤجرة بشرط أن يدخل ذلك في حساب الأجرة . ولا يمنع هذا الاتفاق من أن يبقى المؤجر ، إذا كان هو مالك العين ، ملزماً بأداء الضريبة لخزينة الدولة .

وقد رأينا فيما تقدم أن القوانين التي تنظم النقد والعملة تعتبر من النظام العام ، وأن شرط الدفع بالذهب باطل في المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية على السواء ( [7] ) .

233 – النظام القضائي : نظم التقاضي تحقق في مجموعها ” مصلحة عامة ” ، وكثير من هذه النظم لا تجوز معارضته باتفاقات فردية .

فتحديد اختصاص المحاكم – فيما عدا الاختصاص المحلي – يعتبر من النظام العام . ولا يجوز للخصوم أن يتفقوا على اختصاص محكمة تكون غير مختصة بالنسبة إلى ولايتها أو بالنسبة إلى اختصاصها النوعي ، فيرفعوا قضية من اختصاص المحاكم الشرعية إلى محكمة من المحاكم الوطنية أو قضية من اختصاص المحاكم الابتدائية إلى محكمة جزئية . وقد كان قانون المرافعات الوطني القديم لا يعتبر مسائل الاختصاص النوعي من النظام العام .

وقابلية الحكم للطعن فيه بطريق المعارضة أو الاستئناف أو النقص أو التماس إعادة النظر أو نحو ذلك قد تعتبر من النظام العام . فلا يجوز للخصوم أن يتفقوا على أن المعارضة جائزة في حكم حضوري ، أو أن الاستئناف جائز في حكم لا يقبله . ولكن يجوز الاتفاق على أن الحكم الذي يصدر من محكمة أول درجة لا يستأنف ولا يعارض فيه حتى لو كان قابلا للاستئناف أو للمعارضة ( [8] ) .

234 – القوانين الجنائية : ولا تجوز مخالفة القوانين الجنائية باتفاقات خاصة ، لأن هذه القوانين تعتبر من النظام العام . فيعد باطلا الاتفاق على ارتكاب جريمة أو الاتفاق على عدم ارتكاب جريمة لقاء مبلغ من المال . ويعد باطلا أيضاً الاتفاق الذي يلتزم بمقتضاه شخص بان يتحمل عن آخر ما قد عسى أن يتعرض له من مسئولية جنائية ، والاتفاق التي يلتزم بمقتضاه شخص بان يدفع الغرامات التي يحكم بها جنائياً على شخص آخر . ولا يجوز بمقتضى اتفاق خاص أن تخلق جريمة ليست موجودة في القانون ، كأن يتفق الدائن والمدين على اعتبار عدم وفاء المدين بدينه تبديداً ، فالتبديد لا يكون إلا في عقود معينة مبينة على سبيل الحصر ( [9] ) .

2 – روابط القانون الخاص

235 – الأحوال الشخصية والمعاملات المالية : هذه الروابط أما أن تكون متعلقة بالأحوال الشخصية ، أو داخلة في دائرة المعاملات المالية .

236 – الأحوال الشخصية : كثير من روابط الأحوال الشخصية يحقق مصلحة عامة ويعتبر من النظام العام ، فلا يجوز للأفراد تعديلها باتفاقات فيما بينهم . من ذلك الحالة المدنية للشخص وأهليته وعلاقته بأسرته .

فلا يجوز تعديل الحالة المدنية باتفاق خاص ، كان يتفق شخص مع آخر على تعديل جنسيته أو تغيير اسمه أو التنازل عن بنوته لأبيه أو الصلح على شيء من ذلك . بل إن القانون المدني الجديد حمى بنصوص صريحة الحقوق الملازمة للشخصية من أن يعتدى عليها . فنصت المادة 50 على أنه ” لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة لشخصيته أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ” . ونصت المادة 51 على أنه ” لكل من نازعه الغير في استعمال اسمه بلا مبرر ، ومن انتحل الغير اسمه دون حق أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر ” . أما إذا أصبح اسم الشخص اسما تجارياً فإنه يكون مالا يجوز النزول عنه وبيعه والتصرف فيه .

وقواعد الأهلية من النظام العام . فلا يستطيع شخص أن ينزل عن أهليته أو يزيد فيها أو ينقص منها باتفاق خاص . وقد نصت المادة 48 من القانون المدني الجديد على أنه ” ليس لأحد النزول عن أهليته ولا التعديل في أحكامها ” . وكالأهلية الولاية ، فلا يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يزيد أو ينقص من حدود ولايته .

وعلاقة الشخص بأسرته وما له من حقوق وما عليه من واجبات كل هذا يعتبر من النظام العام إذا لم يكن حقوقاً مالية محضة . مثل ذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من عقد الزواج ، فلا يجوز الاتفاق ما بين الزوجين على تعديل ما للزوج من حقوق على زوجته في الطاعة والأمانة الزوجية أو تعديل ما للزوجة من حقوق على زوجها من النفقة والرعاية . ولا يجوز للزوج المسلم أن ينزل عن حقه في الطلاق ( [10] ) . كذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من الأبوة تعتبر من النظام العام . فللأب حق تربية أولاده ، فلا يجوز أن يقيد نفسه باتفاق يحدد طريقة تربية الأولاد أو يلزمه مقدماً باختيار دين معين لهم كان تكون الأولاد على دين الأم مثلا . والنفقات بمختلف أنواعها ، من نفقة الزوجة ونفقة الصغير والنفقة ما بين الأصول والفروع والنفقة ما بين ذوى الأرحام ، تعتبر كلها من النظام العام ، فلا يجوز تنازل الشخص مقدماً عن حقه في مطالبة من تجب عليه النفقة له ، وإن كان يجوز التنازل عن النفقة المتجمدة بعد تجمدها .

237 – المعاملات المالية : ومن روابط المعاملات المالية ما يحقق مصلحة عامة فيعتبر من النظام العام . من ذلك الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي في البلاد ، فهي تارة تفسح المجال للنشاط الفردي ، وطوراً تحد من هذا النشاط لحماية الجانب الضعيف . ومن ذلك أيضاً الأحكام التي تكفل حماية الغير حسن النية .

فمن الأسس التي تفسح المجال للنشاط الفردي وتكفل تداول المال واستثماره على خير وجه أن حق الملكية لا يجوز أن يقيد المالك في استعماله بغل يده عن التصرف فيه ، وشرط عدم التصرف باطل ما لم يكن مبنياً على باعث مشروع ومقصوراً على مدة معقولة ( م 823 من القانون المدني الجديد ) . ولا يجوز أن يتقيد المالك بالبقاء في الشيوع لمدة تزيد على خمس سنوات ( م 834 من القانون المدني الجديد ) ، لأن الشيوع بعيد عن أن يكون خير الوجوه لاستثمار الملكية .

ومن الأسس التي تكفل حماية الجانب الضعيف ما قرره القانون في صدد عقود الإذعان من جواز تعديل الشروط التعسفية أو الإعفاء منها ، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ( م 149 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من إبطال العقد أو إنقاص الالتزامات في حالة الاستغلال ( م 129 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من إنقاص الالتزام المرهق في حالة الحوادث الطارئة ( م 147 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من جواز تخفيض الشرط الجزائي ( م 224 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من عدم جواز الاتفاق على سعر للفائدة أعلى من السعر الذي يسمح به القانون ( م 227 من القانون المدني الجديد ) .

ومن الأحكام التي تحمي الغير حسن النية القواعد التي رسمها القانون لشهر الحقوق العينية ، فيكون باطلا اتفاق البائع مع المشتري على أن تعتبر الحقوق العينية المترتبة على العين المبيعة سارية في حق المشتري ولو لم تشهر هذه الحقوق على الوجه الذي يتطلبه القانون . كذلك لا يتقيد الدائن باتفاقه مع المدين على تنازله مقدماً عن الطعن في تصرفات مدينه بالصورية أو بالدعوى البوليصية . ولا يجوز لشخص أن يشترط عدم ضمان تعرضه الشخصي أو عدم مسئوليته عن الغش الذي يصدر منه . ولا يجوز الإعفاء من المسئولية التقصيرية سواء كانت مبنية على غش أو على خطأ ، ولا الإعفاء من المسئولية العقدية إذا كانت مبنية على غش أو على خطأ جسيم .


 ( [1] ) محكمة النقض الفرنسية في 24 أكتوبر سنبة 1916 داللوز 1916 – 1 – 247 وسيريه 1920 – 1 – 17 مع تعليق بنكاز – أنظر في هذه المسألة بلانبيول وريبير وإسمان 1 فقرة 248 .

 ( [2] ) محكمة النقض الفرنسية في 2 يولية سنة 1900 سيريه 1904 – 1 – 175 – حكم ثان في 14 مارس سنة 1904 سيريه 1904 – 1 – 444 – حكم ثالث في 15 يونية سنة 1922 سيريه 1922 – 1 – 200 .

وانظر محكمة مصر الكلية الوطنية في 27 مارس سنة 1912 المجموعة الرسمية 13 رقم 120 ص 250 – محكمة بني سويف في 22 ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 95 ص 184 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 21 يولية سنة 1930 المحاماة 11 رقم 315 من 655 محكمة الاستئناف المختلطة في 12 ديسمبر سنة 1901 م 14 ص 46 – وفي 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 42 – وفي 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 156 .

 ( [3] ) محكمة النقض الفرنسية في 17 مايو سنة 1911 سيريه 1913 – 1 – 253 – محكمة الاستئناف المختلطة في 7 ابريل سنة 1920 م 32 ص 260 – وفي 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 42 – وفي 28 يناير سنة 1930 جازيت 20 ص 162 رقم 146 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 3 نوفمبر سنة 1949 المحاماة 29 رقم 429 ص 790 .

وانظر في هذا الموضوع رسالة لنا باللغة الفرنسية في القيود التعاقدية الواردة على حرية العمل – ليون سنة 1925 – وانظر أيضاً لا باتي ( Labatut ) في القيود الاتفاقية الواردة على حرية التجارة والصناعة والعمل في القضاء الفرنسي – تولوز سنة 1928 .

 ( [4] ) ولكن التصرف في العملاء يجوز على النحو الآتي : يتعهد طبيب مثلا إلا يباشر مهنة الطب في جهة معينة وأن يقدم الطبيب الجديد – وهو الدائن في هذا التعهد – لعملائه على اعتبار أنه خليفته ، ويصحب هذا التعهد في الغالب تنازل من الطبيب القديم إلى الطبيب الجديد عن إيجار المكان الذي جعل فيه ” عيادته ” . ( أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف ص 503 هامش رقم 2 ) .

 ( [5] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 13 فبراير سنة 1906 الاستقلال 5 ص 255 ( السعي للحصول على رتبة أو نيشان ) – وانظر أيضاً في المعنى ذاته محكمة مصر الكلية الوطنية في 5 يونية سنة 1901 الحقوق 6 ص 179 – المجموعة الرسمية 3 رقم 85 / 2 .

 ( [6] ) فلا يجوز للمحامي أن يجعل وسيطا بينه وبين موكليه ويؤجر الوسيط على وساطته ، فهذا نوع من السمسرة يأباه شرف المهنة . ولا يجوز أن يتفق طبيب مع صيدلي على أن يرسل الطبيب عملاءه للصيدلي ليشتروا منه الأدوية اللازمة لهم في مقابل جعل . ولا يجوز للمحامي أن يأخذ في مقابل ” أتعابه ” جزءاً من الحق المتنازع عليه ، فإن هذا نوع من الاتجار بالمهنة واستغلال لضعف الموكل .

 ( [7] ) أنظر آنفاً فقرة 226 .

 ( [8] ) أنظر في قواعد الإثبات وهل تعتبر من النظام العام ، نظرية العقد للمؤلف فقرة 487 ص 507 – ص 510 .

 ( [9] ) ومن ذلك أن يتفق البائع والمشتري – في البيع بالتقسيط – على أن يسميا البيع ايجارا حتى تتوافر أركان جريمة التبديد .

 ( [10] ) أما إذا تعهد الزوج بتعويض زوجته إذا طلقها ، فليس في ذلك مخالفة لأحكام الشريعة ولا للنظام العام . لكن هذا التعهد ينتفي الالتزام به إذا كان الزوج لم يطلق زوجته إلا بناء على فعل اتته هي اضطره إلى ذلك ( نقض مدني في 29 فبراير سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 35 ص 85 ) . ويكيف التعهد بأنه التزام أصلي معلق على شرط موقف هو وقوع الطلاق بناء على فعل الزوج .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

المحل قابل للتعامل فيه

المحل قابل للتعامل فيه

 ( النظام العام والآداب )

227 – متى يعتبر الشيء غير قابل للتعامل فيه : يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه ، فلا يصلح أن يكون محلا للالتزام ، إذا كانت طبيعته أو الغرض الذي خصص له يأبى ذلك ، أو إذا كان التعامل فيه غير مشروع .

فالشيء لا يكون قابلا للتعامل فيه بطبيعته إذا كان لا يصلح أن يكون محلا للتعاقد ، كالشمس والهواء والبحر . ويرجع عدم القابلية للتعامل إلى استحالته ( [1] ) .

وقد يصبح التعامل ممكناً في هذه الأشياء من بعض النواحي ، فأشعة الشمس يحصرها المصور ( الفوتوغرافي ) ، والهواء يستعمله الكيمائي في أغراضه ، والبحر يؤخذ من مائة ما يصلح أن يكون محلا للامتلاك . فعند ذلك نصبح الشمس والهواء والبحر قابلة للتعامل فيها من هذه النواحي الخاصة ، وتصلح إذن أن تكون محلا للالتزام .

وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه بالنظر إلى الغرض الذي خصص له . فالملك العام لا يصح بيعه ولا التصرف فيه لأنه مخصص لمنفعة عامة ، وتخصيصه هذا يتنافى مع جواز التصرف فيه . والمال الموقوف ، يجعل ريعه لسلسلة من المنتفعين ، يقتضي إلا يجوز التصرف فيه ما دام وقفاً . وعدم القابلية للتعامل هنا نسبي . فالملك العام إذا كان لا يصلح محلا للتصرف فإنه يصلح محلا للإيجار ، كما في شغل جزء من الطريق العام أو منح رخصة لإقامة حمامات أو ” كابينات ” على شواطئ البحار . والمال الموقوف إذا كان لا يجوز بيعه فإنه يجوز إيجاره . والضابط في كل هذا أن عدم القابلية للتعامل إنما يرجع إلى الغرض الذي خصص الشيء له ، فكل تعامل يتنافى مع هذا الغرض لا يجوز ، أما التعامل الذي لا يتنافى معه فهو جائز .

وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل لأن ذلك غير مشروع . وعدم المشروعية يرجع إما إلى نص في القانون أو إلى مخالفة هذا التعامل للنظام العام أو للآداب . على أن نص القانون الذي يمنع من التعامل في الشيء يكون مبنياً على اعتبارات ترجع هي ذاتها إلى النظام العام أو إلى الآداب . فما ورد فيه نص يحرم التعامل فيه إنما هو في الوقت عينه مخالفة للنظام العام أو للآداب أولهما معاً . ووجود النص دليل على عناية المشرع بالأمر فآثر أن يورد له نصاً . أو هو إيضاح في مقام قد يكون عدم النص فيه مؤدياً للغموض ، كالنص الذي يحرم التعامل في التركة المستقبلة . أو هو تحديد لأمر يرى المشرع تحديده ، كما حدد الربا الفاحش . أو هو تحريم لأمر تقضي ظروف البلد الخاصة بتحريمه ، كما حظر المشرع المصري لااتجار في الحشيش والمخدرات وكما حرم ببيع الوفاء . فيمكن القول إذن أن المحل يكون غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، سواء ورد نص في القانون بتحريمه أو لم يرد . وتقرر المادة 135 من القانون المدني الجديد هذه القاعدة العامة في العبارات الآتية : ” إذا كان محل الالتزام مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا ( [2] ) ” . فلا يجوز إذن أن يكون الشيء المخالف للنظام العام أو الآداب محلا للالتزام ، ويستتبع ذلك أنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف النظام العام الآداب .

فإذا عرفنا النظام العام والآداب أمكن أن نقرر ما إذا كان نص معين في القانون يعتبر من النظام العام أو الآداب فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفه ، وأمكن أيضاً أن نقرر حتى عند انعدام النص ما إذا كان الشيء مخالفاً للنظام العام أو الآداب فلا يصح أن يقوم عليه الالتزام . وهذا ما نتولى الآن بحثه .

228 – النظام العام والآداب ( * ) L’ordre public et les bonnes moeurs : القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها إلى تحقيق مصلحة عامة ، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد . فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها ، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم ، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية ، فإن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة . ويلاحظ أن دائرة النظام العام تضيق إذا تغلبت نزعة المذاهب الفردية ، فإن هذه المذاهب تطلق الحرية للفرد ، فلا تتدخل الدولة في شؤونه ، ولا تحميه إذا كان ضعيفاً ، ولا تكبح جماحه إذا كان قوياً ، فإذا تغلبت النزعة الاشتراكية ومذاهب التضامن الاجتماعية اتسعت دائرة النظام العام ، وأصبحت الدولة تقوم بشؤون كانت تتركها للفرد ، وتتولى حماية الضعيف ضد القوى . بل هي تحمي الضعيف ضد نفسه ، كما رأينا ذلك في عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال . ولا تستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى ، فهو شيء متغير ، يضيق ويتسع حسب ما يعده الناس في حضارة معينة ” مصلحة عامة ” . ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد ” النظام العام ” تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان ، لأن النظام العام شيء نسبي ، وكل ما تستطيع هو أن نضع معياراً مرناً يكون معيار ” المصلحة العامة ” ، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى ( [3] ) .

والآداب ، في امة معينة وفي جيل معين ، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية . وهذا الناموس الأدبي هو وليد المعتقدات الموروثة والعادات المتأصلة وما جرى به العرف وتواضع عليه الناس . وللدين اثر كبير في تكييفه . وكلما اقترب الدين من الحضارة ، كلما ارتفع المعيار الخلقي ، وزاد التشدد فيه . ومن هنا نرى أن العوامل التي تكيف الناموس الأدبي كثيرة مختلفة . فالعادات والعرف والدين والتقاليد وإلى جانب ذلك ، بل في الصميم منه ، ميزان إنساني يزن الحسن والقبح ، ونوع من الإلهام البشري يميز بين الخير والشر ، كل هذه العوامل مجتمعة توجد الناموس الأدبي الذي تخضع الناس له ، ولو لم يأمرهم القانون بذلك . ومعيار الآداب أو ” الناموس الأدبي ” ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي ، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس . وهو في ذات الوقت معيار غير ثابت ، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة فهناك أمور كانت تعتبر مخالفة لأداب فيما مضى ، كالتامين على الحياة والوساطة في الزواج والعرى ، أصبحت الآن ينظر لها نظراً آخر . وهناك بالعكس أمور أصبحت الآن مخالفة للآداب ، كالسترقاق وإدخال المهربات في بلاد أجنبية ، وكانت من قبل غير ذلك ( [4] ) .

ونرى من ذلك أن النظام العام والآداب هما الباب الذي تدخل منه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية ، فتؤثر في القانون وروابطه ، وتجعله يتمشى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية في الجيل والبيئة . وتتسع دائرة النظام العام والآداب أو تضيق تبعاً لهذه التطورات ، وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم ، وما تواضعوا عليه من آداب ، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية . كل هذا يترك للقاضي يفسره التفسير الملائم لروح عصره ، فالقاضي يكاد إذن يكون مشرعاً في هذه الدائرة المرنة ، بل هو مشرع يتقيد بآداب عصره ونظم أمته الأساسية ومصالحها العامة ( [5] ) . ونحن في العصور الحاضرة نشهد تغلب النزعة الاشتراكية واتساع دائرة النظام العام من ناحية ، ونشهد من ناحية أخرى تأثر القانون المضطرد بالعوامل الخلقية ، حتى صح أن يسمى هذا العصر بعصر تغلغل الروح الاشتراكية والروح الخلقية في القانون ( socialization et moralization du droit ) ( [6] ) . على أن الفكرتين اللتين تسودان النظام العام والآداب ، فتبعثان فيهما الخصب والمرونة والقابلية للتطور هما :

 ( أولاً ) فكرة المعيار ، فمعيار النظام العام هو المصلحة العامة ، ومعيار الآداب هو الناموس الأدبي ، وهما معياران موضوعيان لا ذاتيان .

 ( وثانياً ) فكرة النسبية ، فلا يمكن تحديد دائرة النظام العام والآداب إلا في امة معينة ، وفي جيل معين .

وخير سبيل لتحديد ما يراد بالنظام العام والآداب أن نورد تطبيقات عملية لذلك ، فنستعرض اتفاقات تخالف النظام العام ، وأخرى تخالف الآداب ، في عصرنا الحاضر .


 ( [1] ) أما إذا كان الشيء يمكن التعامل فيه ولكن لا مالك له ، فهو مال مباح ، كالطير في الهواء والسمك في البحر ، ويملكه من يستولى عليه ويستطيع أن يتعامل فيه .

 ( [2] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 188 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : ” يكون محل الالتزام غير مشروع إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب ” . وفي لجنة المراجعة عدل النص لايراد الحكم القاضي ببطلان العقد ، فأصبح مماثلا للنص الذي انتهى إليه القانون الجديد ، وقدم في المشروع النهائي تحت رقم 139 . ووافق مجلس النواب عليه تحت الرقم ذاته . ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 135 ، وكذلك وافق عليه مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 222 – ص 224 ) .

 ( [3] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ويلاحظ أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جداً . وقد بلغ من أمر مرونتها أن عمد التقنين الألماني إلى إغفال النص عليها عند صياغة المادة 138 . فعلى اثر مناقشات هامة عنيفة جرت بوجه خاص في مجلس الريشتاج انتهى الأمر إلى استبعاد نصوص مختلفة جاء ففيها ذكر العقد المخالف للآداب وللنظام العام كذلك . وكان الاعتقاد السائد أن نظرية النظام العام تنطوي على فكرة عامة مجردة قد تترتب عليها نتائج بالغة الخطورة ، من بينها أن القاضي ربما أباح لنفسه أن يتخذ من النظام العام نظرية فلسفية أو دينية يبينها على مجموعة المبادئ الدستورية أو على سياسة التشريع العامة أو على رأيه الخاص في المسائل الاجتماعية أو الفلسفة الأخلاقية أو الدينية . وقد دافع الحزب الاشتراكي بكل قوته عن النص المقرر لمفكرة النظام العام . وكان يرمي من ذلك إلى اعتبار كل عقد لا يتفق ومبادئ حماية الطبقة العاملة مخالفا للنظام العام . على أن هذه النتائج بذاتها هي التي جعلت غالبية أعضاء الريشتاج تنفر من النص المقرر للنظام العام ومن كل معيار نظري ، وترغب في وضع معيار عملي بحث قوامه العرف والمبادئ المستقاة من الآداب العامة . وعلى هذا النحو لا تكون الاتفاقات التي أشار إليها الحزب الاشتراكي باطلة طبقاً لمذهب من المذاهب الاشتراكية وإنما بناء على التيار الاجتماعي للآداب العامة ( تعليقات على التقنين الألماني الجزء الأول ص 154 – ص 155 ) . ومهما يكن من أمر فليس في الوسع نبذ فكرة النظام العام دون أن يستتبع ذلك اطراح ما توطد واستقر من التقاليد . وقد رؤى من الواجب أن يفرد مكان لهذه الفكرة في نصوص المشروع لتظل منفذاً رئيسياً تجد منهن التيارات الاجتماعية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني لتثبت فيه ما يعوزه من عناصر الجدة والحياة . بيد أنه يخلق بالقاضي أن يتحرز من إحلال آرائه الخاصة في العدل الاجتماعي محل ذلك التيار الجامع للنظام العام أو الآداب . فالواجب يقتضيه أن يطبق مذهباً عاماً تدين به الجماعة بأسرها لا مذهبا فردياً خاصاً ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 223 ) .

 ( [4] ) وقد يستعين القانون على جعل القواعد الخلقية تتدخل في الروابط القانونية من طريق الالتزام الطبيعي . فالاعتراف بالجميل قاعدة خلقية لا يجعلها القانون ملزمة ، ولكن إذا أعطى شخص آخر مالا ، لا تكرما منه بل اعترافا بجميل عليه ، فالقانون يعد هذا وفاء لالتزام طبيعي وليس تبرعا . فالقانون إذن قد ينهي بطريق غير مباشر عما تنهي عنه الأخلاق مباشرة ، بان يجعل الاتفاق المخالف للآداب باطلا . وقد يأمر ، بطريق غير مباشر أيضاً ، بما تأمر به الأخلاق مباشرة ، بان يجعل هذا الذي تأمر به التزاما طبيعيا في ذمة المدين .

 ( [5] ) ومن هنا كان البت فيما إذا كانت قاعدة قانونية تعتبر من النظام العام أو من الاداب مسالة قانون ن تخضع لرقابة محكمة النقض ز

 ( [6] ) ومما هو جدير بالذكر أنه حيث تتسع دائرة النظام العام يضيق مبدأ سلطان الإرادة ، وحيث تضيق هذه الدائرة يتسع المبدأ . وقد سبق أن بينا أن مبدأ سلطان الإرادة يتقيد بالنظام العام والآداب .

المحل معين أو قابل للتعيين

المحل معين أو قابل للتعيين

221 – النصوص القانونية : نصت المادة 133 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :

 ” 1 – إذا لم يكن محل الالتزام معينا بذاته ، وجب أن يكون معينا بنوعه ومقداره وإلا كان العقد باطلا ” .

 ” 2 – ويكفي أن يكون المحل معينا بنوعه فقط إذا تضمن العقد ا يستطاع به تعيين مقداره . وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة الشيء ، من حيث جودته ، ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي ظرف آخر ، التزم المدين بأن يسلم شيئا من صنف متوسط ( [1] ) ” .

ونصت المادة 134 على ما يأتي :

 ” إذا كان محل الالتزام نقودا ، التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر ( [2] ) ” .

ويتبين من هذه النصوص أنه يجب في المحل أن يكون معيناً أو قابلا للتعيين . فإذا كان المحل نقوداً . وجب أن تكون هي أيضاً معينة أو قابلة للتعيين ، أما قيمة هذه النقود إذا تغيرت فليس في الأصل لتغيرها أي اعتبار .

فنتكلم : ( أولاً ) في كيفية تعيين المحل ( ثانياً ) في تعيين محل الالتزام إذا كان نقوداً .

كيفية تعيين المحل

222 – تعيين محل الالتزام إذا كان عملا أو امتناعا عن عمل : إذا التزم شخص أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل وجب أن يكون ما التزم به معيناً . فإذا تعهد مقاول ببناء وجب أن يتعين هذا البناء أو وجب على الأقل أن يكون قابلا للتعيين . وقابليته للتعيين ترجع إلى الظروف التي تستخلص منها نية طرفي الالتزام . فإذا التزم المقاول بان يبني مستشفى أو مدرسة أو منزلا للسكنى أو منزلا للاستغلال أو نحو ذلك ، فإن ظروف التعاقد يصح أن يستخلص منها العناصر اللازمة لتعيين البناء المطلوب . أما إذا اقتصر المقاول على أن يلتزم بإقامة بناء ون أن يعين أي نوع من البناء هو ، كان المحل غير معين وغير قابل للتعيين ، فلا يقوم الالتزام على محل كهذا لأنه في حكم المعدوم .

223 – تعيين محل الالتزام في الشيء موضوع الحق العيني : وإذا كان الالتزام محله نقل حق عيني على شيء ، وجب كذلك أن يكون هذا الشيء معيناً أو قابلا للتعيين . وهنا يجب التمييز بين الشيء المعين بالذات والشيء غير المعين .

فإذا وقع العقد على شيء معين بالذات وجب أن تكون ذاتية الشيء معروفة ، فيوصف الشيء وصفاً يكون مانعاً للجهالة . فإذا باع شخص منزلا ، وجب أن يبين موقع هذا المنزل في أية جهة هو وأن يذكر أوصافه الأساسية التي تميزه عن غيره من المنازل الأخرى . وإذا باع أرضا ، وبج تحديد موقعها وبيان مساحتها وتعيين حدودها . وإذا باع سيارة معينة بالذات ، وجب أن يبين أية سيارة يبيعها وأن يذكر أوصافها المميزة . لاسيما إذا كان البائع عنده أكثر من سيارة واحدة . وقد طبقت المادة 419 من القانون الجديد هذه القاعدة في صدد عقد البيع ، فنصت على أنه ” يجب أن يكون المشتري علاماً بالمبيع علماً كافياً . ويعتبر العلم كافياً إذا أشتمل العقد على بيان المبيع وأوصافه الأساسية بياناً يمكن من تعرفه ” .

أما إذا كان الشيء غير معين بالذات ، وجب أن يكون معيناً بجنسه ونوعه مقداره ، كان يذكر مثلا أن المبيع قطن من نوع الأشموني وأن مقداره عشرون قنطاراً . فإذا لم يحدد المقدار وجب أن يتضمن العقد ما يستطاع به تحديده ، كما إذا تعهد شخص بأن يورد أغذية معينة النوع لمستشفى معين أو لمدرسة معينة ، فالمقدار اللازم من هذه الأغذية وإن لم يحدد في العقد قابل للتحديد وفقاً لحاجة المستشفى أو المدرسة .

وكثيراً ما يترك تعيين المحل للمألوف أو للعرف ، كما إذا قام متجر بتوريد سلعة لعميل له دون أن يبين الثمن ، أو قام صانع بعمل دون أن يحدد اجره .

وقد يقتصر التعيين على بيان الجنس والنوع والمقدار دون أن تذكر درجة الجودة ودون أن يمكن استخلاصها من العرف أو من ظروف التعاقد ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون الصنف متوسطاً ، فلا يكون جيداً حتى لا يغبن المدين ، ولا يكون رديئاً حتى لا يغبن الدائن ( [3] ) .

2 – تعيين محل الالتزام إذا كان نقوداً

224 – تعيين النقود – العملة الورقية ذات السعر القانوني : إذا كان محل الالتزام نقوداً ، وجب أن تكون هي أيضاً معينة بنوعها ومقدارها شأن أي محل للالتزام . فيلتزم المدين مثلا أن يؤدي للدائن مقداراً معيناً من الجنيهات المصرية أو من القروش أو من الملاليم . وتقضي المادة 134 ، كما رأينا ، بأنه إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر . ويترتب على ذلك أن المدين يلتزم بأداء المقدار المتفق عليه من النقود ، سواء ارتفعت قيمة النقود أو انخفضت . فإذا ارتفعت كان ارتفاعها لمصلحة الدائن ، وإذا انخفضت كان انخفاضها لمصلحة المدين . وليس من اللازم أن يؤدي المدين النقود من النوع المنصوص عليه في العقد ، جنيهات أو قروشاً أو ملاليم ، بل إن المدين يؤدي دينه عادة بنقد ذى سعر قانوني ( cours legal ) يساوي القدر المتفق عليه ، فيؤديه عملة ورقية إذا تقرر لها سعر قانونين .

والأصل في نظرنا أن العملة الورقية إذا تقرر لها سعر قانونين وجب على الدائن قبولها حتى لو اتفق مع المدين على غير ذلك ، وحتى لو لم يكن لهذه العملة سعر الزامي ( cours force ) . فالسعر القانوني وحده كاف لجعل الدائن يستوفى حقه . ومهما يكن من خلاف في هذه المسألة فإن الخلاف ليست له أهمية عملية إذا لم يكن للعملة الورقية سعر إلزامي ، فإن الدائن الذي يريد الحصول على حقه ذهباً ولا يستوفيه إلا ورقاً يستطيع أن يستبدل الذهب بالورق في أي وقت شاء .

225 – العملة الورقية ذات السعر الالزامي ( شرط الذهب ) : فإذا تقرر للعملة الورقية سعر إلزامي ظهرت خطورة المسألة ، لأن العملة الورقية ذات السعر الالزامي تكون قيمتها الاقتصادية أقل من قيمتها القانونية ، وتنقص هذه القيمة الاقتصادية كلما زاد التضخم ، فإذا استوفى الدائن حقه ورقاً فإنه لا يستطيع أن يستبدل به ذهباً لقيام السعر الالزامي . وقد تكون قيمة الورق قد نزلت نزولا فاحشاً فتصيبه خسارة جسيمة من وراء ذلك . لهذا جرت العادة أن يشترط الدائن استيفاء حقه ذهباً ، وهذا ما يسمى بشرط الذهب ( clause d’or ) . فيكون الدين واجب الوفاء بالذهب ( payable en or ) أو بما يعادل قيمة الذهب ( payable en valeur or ) . فهل يعتبر هذا الشرط صحيحاً ؟ نرى أن ذلك لا يجوز في المعاملات الداخلية . وأن الشرط يكون باطلا لمخالفته للنظام العام . وأن العقد الذي تضمنه هذا الشرط يكون باطلا كذلك إذا تبين أن الشرط كان هو الباعث الرئيسي على التعاقد . ونحن في هذا الرأي نتفق مع القضاء الفرنسي ( [4] ) ومع جمهرة من الفقهاء الفرنسيين ( [5] ) . ومما يؤيد مما ما نذهب إليه أن الغرض من تقرير السعر الإلزامي هو إعطاء الورق قيمة قانونية إلزامية معادلة لقيمة الذهب ، فينعدم الفرق بين الورق والذهب في نظر القانون ، ويجب أيضاً أن ينعدم في نظر الأفراد ، لأن القانون إنما أراد هذا حماية لمصلحة عامة ترجع إلى نظام النقد في البلد وإلى استقرار قيمة العملة وثباتها .

هذا ويلاحظ أن القضاء الفرنسي إنما يبلط ” شرط الذهب ” في المعاملات الداخلية في فرنسا . أما في المعاملات الخارجية ، وهي التي تقتضي خروج العملة من فرنسا أو دخولها فيها ، كما إذا صدر تاجر في فرنسا بضاعة إلى الخارج أو استورد بضاعة من الخارج ، وكما إذا عقدت دولة قرضاً في أسواق أجنبية ، فإن شرط الذهب ” يكون صحيحاً . وذلك لأنه إذا استطاع القانون الفرنسي أن يعتبر قيمة العملة الورقية معادلة لقيمة الذهب فليس هذا التعادل إلا اعتبارياً ، ولا يستقيم هذا الاعتبار إلا في المعاملات الداخلية حيث ينبسط سلطان المشرع ويصبح الأخذ باعتباره واجباً . أما في المعاملات الخارجية فالذهب وحده هو العملة الثابتة ، ولا ينفذ اعتبار المشرع في غير بلده ، وكل اتفاق يشترط الوفاء بالذهب يكون إذن مشروعاً ( [6] ) .

226 – شرط الذهب في القانون المصري : أما في القانون المصري فقد مر القضاء بمرحلتين :

 ( المرحلة الأولى ) في ظل المرسوم ( القانون ) الصادر في 2 أغسطس سنة 1914 . وقد قضى هذا المرسوم بان يكون للعملة الورقية التي يصدرها البنك الأهلي قيمة الذهب – وهذا هو السعر القانونين – وبأن البنك لا يجبر على إبدال الورق بالذهب – وهذا هو السعر الإلزامي – وبأن ما يدفع من تلك الأوراق ( لا يسبب وبأي مقدار ) يكون دفعاً صحيحاً وموجباً لبراءة الذمة كما لو كان الدفع حاصلا بالعملة الذهبية ، بصرف النظر عما يخالف ذلك من الشروط أو الاتفاقات الحاصلة أو التي تحصل بين أصحاب الشأن ، أي سواء كانت هذه الشروط أو الاتفاقات موجودة قبل صدور المرسوم أو جدت بعد ذلك . والنص كما نرى صريح في أن شرط الذهب باطل إطلاقاً ، ولم يميز المرسوم في ذلك بين المعاملات الداخلية والمعاملة الخارجية ، بل أن هذا التشريع جعل له اثر رجعي ، فهو يبطل شرط الذهب في عقد تم قبل صدوره كما يبطله في عقد تم بعد صدوره .

ولكن بالرغم من صراحة النص انقسم القضاء المصري في شأن شرط الذهب . فبعض الأحكام قضى ببطلانه ، وبعض قضى بصحته ، وبعض جرى على نهج القضاء الفرنسي فميز بين المعاملات الداخلية حيث يكون الشرط باطلا والمعاملات الخارجية حيث يكون الشرط صحيحاً ( [7] ) .

 ( المرحلة الثانية ) وبقى القضاء المصري يواجه شرط الذهب مضطرباً غير مستقر حتى صدر المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 . وقد أراد المشرع المصري بهذا القانون أن يحسم ما نشب من خلاف في تفسير المرسوم الصادر في 2 أغسطس سنة 1914 بصدد المسألة التي قام فيها الخلاف الجوهري ، وهي قيمة شرط الذهب في المعاملات الخارجية أو المعاملات ذات الصبغة الدولية . ذلك لأن المعاملات الداخلية لم يقم في شأنها خلاف جدى ، إذ كان واضحاً أن شرط الذهب يجب أن يكون باطلا في هذه المعاملات . وكذلك يجب أن يكون باطلا في المعاملات الخارجية ، وقد صرح بذلك قانون سنة 1935 ، لأن النص الذي ورد في مرسوم سنة 1914 في بطلان هذا الشرط عام مطلق لا يميز بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية كما قدمنا . وتقول المذكرة الإيضاحية لقانون سنة 1935 في هذا الصدد ما يأتي : ” . . . ذلك أنه يوجد نص صريح لا يحتمل أي تفرقة بين العقود التي يسري عليها حكمه ، وليس ذلك لأن النص عام فحسب ، بل هو فوق ذلك صريح قاطع . . . فالدفع أياً كان نوعه حتى لو كان سببه التزاماً دولياً داخل بلا شك في عموم هذا النص . وليس من بيل مع مثل هذا النص الذي حدد فيه الشارع مقاصده بكل جلاء ووضوح للأخذ بقضاء المحاكم الفرنسية وقد بنى على اعتبارات خاصة بفرنسا مستمدة من أحوالها الاقتصادية . وذلك هو المعنى والمغزى الصحيح لمرسوم 2 أغسطس سنة 1914 ، ولنفس من شرع حكم ذلك المرسوم أن يزيد مقاصده وضوحاً فيما يتعلق بالاتفاقات الدولية ، وألا يدع أي شك يحوم حول تطبيق القاعدة التي أتى بها مرسوم سنة 1914 والتي تقرر أمراً من أمور النظام العام ، على ذلك النوع من الاتفاقات ، عملا بنص المرسوم المذكور وروحه ، وأخذاً بما اقتضته وتقتضيه مصلحة البلاد العامة ( [8] ) ” .

ويتبين من ذلك أن قانون سنة 1935 أراده المشرع أن يكون قانوناً تفسيرياً يسري على الماضي . وهو يتضمن النص الآتي : ” تبطل شروط الدفع ذهباً في العقود التي يكون الالتزام بالوفاء فيها ذا صبغة دولية والتي تكون قد قومت بالجنيهات المصرية أو الاسترلينية أو بنقد أجنبي آخر كان متداولا قانوناً في مصر ( الفرنك والجنيه التركي ) ، ولا يترتب عليها أي اثر . ولا يجري هذا الحكم على الالتزام بالوفاء بمقتضى المعاهدات أو الاتفاقات الخاصة بالبريد أو التلغراف أو التليفون ” .

ومنذ صدور هذا القانون استقر قضاء المحاكم المصرية على بطلان شرط الذهب في المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية على السواء ( [9] ) .

ولا يزال هذا القانون سارياً إلى اليوم ، لأن القانون المدني الجديد لم يعرض لهذه المسألة ، بل تركها للتشريعات الخاصة باعتبارها من المسائل الاقتصادية المتغيرة ( [10] ) . وقانون سنة 1935 هو التشريع الخاص الذي لا يزال قائماً والذي يرجع إليه في بطلان شرط الذهب ، دون تمييز بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية .


 ( [1] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 184 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي ” 1 – يجب أن يكون الشيء محل الالتزام معيناً بذاته ، أو بنوعه ومقداره ، 2 – ويكفي أن يكون الشيء معيناً بنوعه فقط إذا تضمن العقد ما يستطاع به تعيين مقداره . وإذا لم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على درجة الشيء من حيث جودته ولم يمكن استخلاص ذلك من أي ظرف آخر ، التزم المدين بأن يسلم شيئاً من صنف متوسط ” . وفي لجنة المراجعة تقرر إدخال بعض تعديلات لفظية ، والنص على حكم البطلان بعد أن استغنى عن المادة 181 من المشروع ، وحذف عبارة ” صراحة أو ضمنا ” من الفقرة الثانية لأن الاتفاق الضمني يندرج تحت عبارة ” استخلاص ذلك من أي ظرف آخر ” وإضافة العرف كتخصيص يليه تعميم في عبارة ” من أي ظرف آخر ” . فأصبح النص كالآتي : ” 1 – إذا لم يكن محل الالتزام معيناً بذاته وجب أن يكون معيناً بنوعه ومقداره ، وإلا كان العقد باطلا . 2 – ويكفي أن يكون المحل معيناً بنوعه فقط إذا تضمن العقد ما يستطاع به تعيين مقداره ، وإذا لم يتفق المتعاقدان على درجة الشيء من حيث جودته ، ولم يمكن استخلاص ذلك من العرف أو من أي ظرف آخر ، التزم المدين بان يسلم شيئاً من صنف متوسط ” . وأصبح رقم المادة 137 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 133 . ووافق مجل الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 214 – ص 217 ) . أنظر المادة 190 فقرة 2 من التقنين اللبنانين والمادة 243 من التقنين الألماني .

 ( [2] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 186 من المشروع التمهيدي على النحو الاتيك ” 1 – إذا كان محل الالتزام نقوداً فلا يكون المدين ملزماً إلا بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك . 2 – إذا لم يكن للنقد المعين في العقد سعر قانونين في مصر جاز للمدين أن يبقى دينه بنقود مصرية بعسر القطع في الزمان والمكان اللذين يتم فيهما الوفاء ، فإذا لم يكن في مكان الوفاء سعر معروف للقطع ، فيسعر قطعها في أقرب سوق تجارية . كل هذا ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك . 3 – إذا تأخر المدين عن الوفاء في ميعاد الاستحقاق بتقصير منه كان ملزماً بفرق السعر ، دون إخلال بفوائد التأخير ” . وفي لجنة المراجعة اقترح حذف النص كله لأنه يقرر حكما في مسائل اقتصادية يحسن تركها لقانون خاص ، وبعد المناقشة وافقت اللجنة على ذلك مع استبقاء الفقرة الأولى على أن يحذف منها العبارة الأخيرة ” ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك ” ، فاصحب النص الذي اقرته اللجنة هو ما يأتي : ” ( إذا كان محل الالتزام نقودا التزام المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر ” . وأصبح رقم المادة 138 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل ، وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 134 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 218 – ص 222 ) .

أنظر المادة 24 من المشروع الفرنسي الإيطالي . هذا وقد كان القانون المدني القديم يتضمن النص الآتي ( م 474 / 577 ) : ” إذا كان الشيء المستعار نقوداً لزم رده بعين قيمته العددية ، أياً كان اختلاف أسعار المسكوكات الذي حصل بعد وقت العارية ” . وهذا النص لا يختلف في المعنى عن النص الجديد ، وإن كان مقصوراً على عقد الفرض .

 ( [3] ) وقد يترك تعيين المحل لأجنبي كما إذا باع شخص عيناً بثمن يترك تقديره لحكم . فإذا قدر الحكم الثمن كان تقديره ملزماً للمتعاقدين ، وقام التزام المشتري على محل معين ، أما إذا لم يقدره فلا يجوز للقاضي أن يقوم مقامه في التقدير ، لأن عمل العقود لا يدخلفي مهمة القاضي ، فيبقى الثمن غير معين ، ويكون البيع باطلا . ولا يجوز ترك تعيين المحل لإرادة أحد المتعاقدين المحضة إذ يصبح المتعاقد الآخر تحت رحمته ، إلا إذا كانت عناصر التعيين معروفة بحيث لا يكون هناك مجال للتحكم .

هذا وقد أشتمل المشروع التمهيدي على نص يعرض لهذه المسائل هو المادة 185 من هذا المشروع ، وقد جرت على النحو الآتي : ” 1 – إذا ترك تعيين الشيء لأحد المتعاقدين أو لأجنبي عن العقد ، فيجب أن يكون هذا التعيين قائماً على أساس عادل . فإذا ابطأ التعيين أو قام على أساس غير عادل ، فيكون تعيني الشيء بحكم من القضاء . 2 – ومع ذلك إذا ترك التعيين لأجنبي عن العقد ولمحض اختياره ، فإن العقد يصبح باطلا إذا لم يستطع هذا الأجنبي أن يقوم بالتعيين أو لم يرد القيام به أو لم يقم به في وقت معقول أو قام به وكان تقديره غير عادل ” . وقد حذفت لجنة المراجعة هذا النص في المشروع النهائي لأنه يعرض لحالات تفصيلية قليلة الأهمية ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 215 – ص 216 في الهامش ) . وبعد حذف النص لم يعد هناك مجال لاتباع أحكامه فيما خالفت فيه القواعد العامة التي تقدم ذكرها . أنظر أيضاً في هذا الموضوع المواد 315 و 317 و 319 من القانون الألماني ، وعن هذه المواد اقتبس المشروع التمهيدي المادة 185 التي حذفتها لجنة المراجعة .

 ( [4] ) محكمة النقض الفرنسية في 17 مايو سنة 1927 داللوز 1928 – 1 – 25 – وفي 31 ديسمبر سنة 1928 سيريه 1930 – 1 – 41 ) مع التعليق هيبير Hubert ) – محكمة باريس الاستئنافية في 21 فبراير سنة 1935 داللوز 1925 – 2 – 115 – وفي 13 ابريل سنة 1926 داللوز 1296 – 2 – 105 .

 ( [5] ) أو برى ورو الطبعة الخامسة 4 ص 318 – ص 360 – كابيتان في داللوز الاسبوعي سنة 1926 باب المقالات ص 1 وص 17 و ص 33 ، وسنة 1927 ص 1 ، وسنة 1928 ص 53 – ديموج في مقال له في جريدة موثقي العقود ( Journal des notaries ) سنة 1921 ص 137 ، وسنة 1923 ص 97 – جيز في مقال له في مجلة العلم والتشريع المالي ( Revue de science et de legislation financiers ) سنة 1924 ص 5 – ليون كان في تعليقه في سيريه 1920 – 1 – 193 – سافاتييه جازيت داللوز 1924 ص 89 وتعليقه في داللوز 1926 – 2 – 89 و 105 و 153 وسنة 1927 – 2 – 153 و 156 – بلانيول وريبير وجابولد 2 فقرة 11686 . على أن كثيراً من الفقهاء يذهبون إلى عكس هذا الرأي ويقولون بصحة شرط الذهب حتى في المعاملات الداخلية ( بودري وبارد 2 فقرة 1475 – ديبويش ( Dupuich ) في تعليقه في داللوز 1920 – 1 – 137 – جني في مجلة القانون المدني ربع السنوية سنة 1926 ص 557 و سنة 1928 ص 5 – لالو ( Lalou ) في تعليقه في داللوز سنة 1924 – 2 – 17 و 97 – وسنة 1926 – 2 – 69 و 95 – ما تر ( Mater ) في مجلة قانون البنوك ( Revne du droit bancaire ) 1 ص 193 و ص 289 و 2 ص 193 – جوسران 2 فقرة 859 ) .

هذا وقد تضمن المشروع التمهيدي نصاً في هذه المسألة هو المادة 187 ، وقد جرت بما يأتي : ” ومع ذلك إذا تقرر سعر إلزامي للنقد الورقي فلا يجوز الاتفاق على أن يكون الوفاء بنقود أجنبية محسوبة بسعر قطعها ” . وفي هذا النص تحريم لشرط الذهب . وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ولهذا يعتبر اشتراط الدفع بالذهب أو على أساس قيمة الذهب باطلا في حالة تقدير سعر إلزامي ( حتى في المعاملات الدولية : المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 – قارن القانون الفرنسي في 25 يونية سنة 1928 التقويم السنوي للتشريع الفرنسي سنة 1928 ) ويترتب على بطلان الشرط بطلان العقد بأسره إذا كان الشرط هو الدافع الحافز على التعاقد . ومع ذلك فيجوز الاتفاق على أن يتم الوفاء بنقود أجنبية تحتسب بسعر قطعها إذا كان الدين قد عقد بنقد أجنبي . وليس في هذا مساس بنص في القانون لأن النقد الأجنبي ليس له سعر إلزامي أصلاً . ثم أن العدل يقضي من ناحية أخرى بان يتم الوفاء في المعاملات الدولية على أساس سعر القطع الذي يمثل العلاقة بين النقد الوطني والنقد الأجنبي ” . وقد حذفت لجنة المراجعة نص المشروع التمهيدي في المشروع النهائي لأنه يقرر حكماً في مسائل اقتصادية متغيرة يحسن تركها لقانون خاص – ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 218 – ص 219 في الهامش وص 220 – ص 221 ) . وسنرى فيما يلي أن هذا القانون الخاص الذي تركت المسألة لحكمه هو المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 ، ويبطل هذا القانون شرط الذهب حتى في المعاملات الخارجية ( الدولية ) . ويغلب أن تترك التقنينات مسألة التعامل بالنقود الأجنبية إلى تشريعات خاصة . وقد نصت المادة 135 من القانون المدني السوري الجديد على أنه ” إذا كان محل الالتزام نقوداً ، التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر ، ما لم ينص القانون على أحكام خاصة بتحويل النقد الأجنبي ” .

 ( [6] ) محكمة النقض الفرنسية في 23 يناير سنة 1924 داللوز 1924 – 1 – 41 وفي 3 يونية سنة 1930 دللوز 1931 – 1 – 5 وفي 2 يولية سنة 1935 داللوز الأسبوعي 1935 – 457 – وفي 17 نوفمبر سنة 1934 ( Nem . Jur ) 1943 فقرة 2670 – محكمة بوردو الاستئنافية في 23 مايو سنة 1 921 داللوز 1923 – 2 – 6 – محكمة باريس الاستئنافية في 16 ابريل سنة 1926 داللوز 1926 – 2 – 105 – وفي ) يولية سنة 1926 داللوز الأسبوعي 1926 – 537 – وفي ) نوفمبر سنة 1928 داللوز الاسبوعي 1929 – ) – محكمة بيزانسون الاستئنافية في 19 يناير سنة 1 929 سيريه 1929 – 2 – 55 . هذا وقد أيد المشرع الفرنسي وجهة نظر القضاء في هذا الموضوع فنص صراحة على اعتبار شرط الذهب صحيحا في المعاملات الخارجية ( أنظر قانون 25 يونية سنة 1928 وقانون 18 فبراير سنة 1 937 ) . أنظر في هذه المسألة بلانيول وريبير وجابولد 2 فقرة 1180 وفقرة 1185 – جوسران 2 فقرة 860 مكررة – كولان وكابيتان الطبعة العاشرة سنة 1948 فقرة 492 .

 ( [7] ) أنظر في معنى البطلان محكمة الاستئناف المختلطة في 29 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 112 – وفي معنى الصحة محكمة الاستئناف المختلطة في 24 يناير سنة 1923 م 35 ص 182 – وفي 28 مارس سنة 1928 م 40 ص 256 – وفي ) مارس سنة 1929 م 41 ص 291 – وفي 6 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 53 – وفي معنى التمييز ما بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية محكمة الاستئناف المختلطة في 26 نوفمبر سنة 1931 م 44 ص 35 – وفي 13 يونية سنة 1934 م 46 ص 331 .

وكانت بعض المحاكم الكلية المختلطة تجزئ أحكام مرسوم سنة 1 914 ، ففيه حكمان وهما اللذان يقرران السعر القانونين والسعر الإلزامي لأوراق البنك الأهلي ينفذان على الأجانب دون حاجة لموافقة الجمعية التشريعية لمحكمة الاستئناف المختلطة ، لانهما صدرا من الدولة المصرية بمالها من حق السيادة ، وأما الحكم الثالث وهو الذي ينص على بطلان شرط الذهب فلا ينفذ على الأجانب في رأي هذه المحاكم لأنه لم يصدر من الدولة المصرية بما لها من حق السيادة ، وهو يتناقض مع المادة 149 من القانون التجاري المختلط التي تقضي بأن وفاء الكمبيالة يون بالعملة التي تذكر فيها ، ولم توافق عليه الجمعية التشريعية . أنظر في أحكام المحاكم المختلطة في هذا المعنى محكمة إسكندرية الكلية في 21 مارس سنة 1 933 جازيت 23 ص 255 – وفي 4 ابريل 1933 جازيت 23 ص 256 – محكمة مصر الكلية في 8 يونية سنة 1933 جازيت 23 ص 257 – وفي 31 يناير سنة 1933 جازيت 23 ص 262 – قضية الدين العام ) . ومع ذلك أصدرت محكمة اسكندرية الكلية المختلطة في 3 مارس سنة 1934 حكما قضت فيه بان مرسوم 2 أغسطس سنة 1914 يدخل في أعمال السيادة وذلك في جميع أحكامه ورتبت على ذلك أن شرط الذهب يكون باطلا ( أنظر في هذا الحكم وفي غيره من أحكام أخرى نظرية العقد للمؤلف ص 515 حاشية رقم 1 ) .

 ( [8] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية تفنيد للأحكام المصرية التي تقضي بالتمييز بين المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية تنقله فيما يلي : ” اتفق لبعض الأحكام في سياق بحثها في تطبيق مرسوم 2 أغسطس سنة 1914 على الاتفاقات الداخلية ( تلك التي تنشأ ويكون الوفاء بها في القطر المصري ) أن تشير – عرضاً ودون أن تقيم الدليل على رأيها – إلى أن أحكام ذلك المرسوم لا تسري على الاتفاقات ذات الصبغة الدولية . وذهبت أحكام أخرى في دعاوى قائمة بالذات على هذا النوع الأخير من الاتفاقات إلى أن مدى تطبيق المرسوم المذكور لا يتعدى حدود الديار المصرية ، وإلى أنه إذا صح تطبيقه على أحوال الوفاء داخل القطر فإنه لا يعفي المدين حيث يكون الوفاء في الخارج من دفع دينه ذهبا . ومن أجل ذلك تنكر تلك الأحكام أن يكون لأوراق البنكنوت سعر رسمي إلزامي حتى في داخل القطر المصري إذا كان الوفاء تنفيذاً لاتفاقات ذات صبغة دولية لأن في ذلك إضراراً بليغاً بالدائنين الذين يقتضون ديونهم في القاهرة أو في الإسكندرية ، ولانه يترتب عليه تفرقة غير مقبولة في المعاملة بين الدائنين . وواضح أن الأحكام المشار إليها تستمد التمييز بين نصوص الاتفاقات من القضاء الفرنسوي ، وإنما جاز ذلك التعبير في فرنسا لعدم وجود حكم تشريعي يقضي ببطلان شرط الدفع ذهباً ، ولان بطلان هذا الشرط لم ينتج إلا من أن أوراق البنكنوت جعل لها سعر إلزامي إلى جانب سعرها الرسمي ، فكان للمحاكم مطلق الحرية في تحديد مدى بطلان شرط الدفع ذهباً مستوحية في ذك أسباب النظام العام القومي وحدها . ورغما من الحملات المتكررة آلت يحملها بعض الفقهاء على أحكام القضاء في هذا الشأن فإن المحاكم لم تلق صعوبة في الحكم ببطلان شرط الدفع ذهبا في الاتفاقات الداخلية ، على أن سيرتها كانت غير ذلك بالنسبة للاتفاقات ذات الصبغة الدولية . وقد حاولت المحاكم الفرنسوية أول الأمر ( راجع حكم محكمة النقض والإبرام الصادر في 2 يونية سنة 1920 ) اعتبار شرط الدفع ذهباً باطلا إذا كان المدين فرنسويا وصحيحاً حيث يكون من شان وفاة الأجنبي بدينه دخول الذهب في فرنسا . ولكنها انتهت إلى اعتماد صحة شرط الدفع ذهباً في العقود ذات الصبغة الدولية إطلاقاً . ويرى بعض الشراح أن المذهب الأخير لا يختلف عن المذهب الأول في تحقيق المصالح القومية إذ كانت فرنسا دائنة للبلاد الأجنبية غير مدينة . وقد ايد قانون تثبيت النقد الصادر في سنة 1928 قضاء المحاكم بان استثنى الديون الدولية المشروط دفعها ذهباً بقيمة الفرنك الجديد ، ولولا النص صراحة على هذا الاستثناء لانسحب حكم ذلك القانون على الديون الداخلية والدولية على السواء . على انه بالرغم مما لقضاء المحاكم الفرنسوية من قوة السند والحجة فإن التفرقة بين هذين النوعين من الوفاء ( ولم يحاول أحد بناءها على أساس قانونين مقبول ) غير مسلمة في جميع البلاد . فالمحاكم الإنجليزية الثلاث التي نظرت في دعوى شركة ” تعاون البلديات البلجيكية للكهرباء ” قضت اثنتان منها ( المحكمة الابتدائية والمحكمة الإستئنافية ) ببطلان شرط الدفع ذهباً ، وقضى مجلس اللوردات بصحة الشرط المذكور ، دون أن يجعل أي تلك الأحكام الثلاثة للصبغة الدولية للاتفاق أي شأن فيما ذهب إليه من الصحة أو البطلان ، ثم أن قانون النقد الإنجليزي ينطبق على وتيرة واحدة على العقود الداخلية والدولية . وفي ايطاليا من جهة أخرى كان قد صدر قانون في أول مايو سنة 1866 يقضي على الحكومة والأفراد بقبول التعامل بأوراق البنكنوت ( وكان لها سعر إلزامي ) بقيمتها الاسمية كما لو كان لها نفس القيمة الفعلية للمكوكات ولو نص العقد على خلاف ذلك . وظل ذلك القانون معمولا به حتى سنة 1881 ، ولم تكن محاكم ايطاليا تفرق في تطبيق هذا القانون بين العقود تبعاً لوصفها بأنها داخلية أو دولية ، وكانت تقضي ببطلان ما تضمنته الاتفاقات الدولية من شروط الدفع ذهباً . وفي مصر يحكي نظام أوراق البنكنوت من حيث سعرها الرسمي والالزامي ما هو حاصل في وقتنا هذا بامريكا وبين سنتي 1866 و 1881 في ايطاليا . ذلك أنه يوجد نص صريح لا يحتمل أي تفرقة بين العقود التي يسري عليها حكمه . . . ” ( مجموعة القوانين والمراسيم والاوامر الملكية سنة 1935 ص 173 – ص 175 ) .

 ( [9] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 18 فبراير سنة 1936 م 48 ص 142 . وقد قضت هذه المحكمة في حكم آخر ( 31 مارس سنة 1938 م 50 ص 203 ) بأن بطلان شرط الذهب والشروط المماثلة في عقد لا يستتبع بطلان العقد كله أو بطلان الشروط الأخرى التي اتفق عليها المتعاقدان وتلاقت عندها ارادتاهما في صدد طريقة وفاء الدين ومواعيد الوفاء والفوائد وغير ذلك . وحيث يكون شرط الذهب ممنوعا فإنه يكون باطلا سواء كان صريحاً أو ضمنياً ، فيكون إذن باطلا كل شرط – أياً كانت صورته – أملاه اعتبار يرجع لعدم الثقة في العملة الوطنية ، وبخاصة الشروط التي يخير بمقتضاها المتعاقد بين أنواع العملة وشروط الدفع بعملة أجنبية . وأن المرسوم بقانون رقم 45 لسنة 1935 نبذ على وجه قاطع التمييز ما بين المعاملات الداخلية والمعاملات الدولية . وإذا كان شرط الذهب المتفق عليه في عقد فرض باطلا ، فإنه لا يجوز للدائن أن يطالب على أساس المسئولية التقصيرية وبدعوى الغش بمبلغ يساوي ما خسره من جراء نزول الجنيه المصري ، فإن ذلك يكون تحايلا منه للحصول بطريق غير مباشر على ما لم يستطع الحصول عليه بطريق مباشرة بمقتضى شرط الذهب – ومع ذلك قضت محكمة الاستئناف المختلطة في أحكام أخرى بأنه إذا اشترطان يكون الدفع بعملة أجنبية صح الشرط ، ووجب الدفع بهذه العملة : 23 ابريل سنة 1936 م 48 ص 242 – 4 نوفمبر سنة 1936 م 49 ص 3 .

 ( [10] ) وقد رأينا فيما تقدم ( فقرة 22 في الهامش ) أن المشروع التمهيدي تضمن نصاً ( م 187 ) يحرم شرط الذهب ولكن يبيح في الوقت ذاته شرط الوفاء بنقود أجنبية محسوبة بسعر قطعها . وقد حذف النص في المشروع النهائي لأنه يقرر حكما في مسائل اقتصادية متغيرة يحسن تركها لقانون خاص . وكانت مزية هذا النص أنه يحسم الخلاف في صحة شرط الوفاء بنقود أجنبية مسحوبة بسعر قطعها . والآن وقد حذف النص فإن الخلاف في صحة هذا الشرط يبقى قائماً ، وقد رأينا تضارب أحكام القضاء المختلط في هذه المسألة .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

المحل موجود أو ممكن في القانون المدني

المحل موجود أو ممكن

1 – المحل موجود

215 – معنى الوجود : إذا كان الالتزام محله نقل حق عيني ، فالشيء الذي تعلق به هذا الحق يجب أن يكون موجوداً . والمعنى المقصود من الوجود هو أن يكون الشيء موجوداً وقت نشوء الالتزام أن أن يكون ممكن الوجود بعد ذلك .

وقد يقصد المتعاقدان أن يقع الالتزام على شيء موجود فعلا لا على شيء ممكن الوجود . فإذا لم يكن الشيء موجوداً في هذه الحالة – حتى لو أمكن وجوده في المستقبل – فإن الالتزام لا يقوم . كذلك يكون الحكم إذا وجد الشيء ثم هلك قبل نشوء الالتزام . أما إذا هلك بعد نشوء الالتزام ، فإن الالتزام يكون قد قام وقت نشوئه على محل موجود ، ويكون العقد بعد ذلك قابلا للفسخ إذا تسبب عن هلاك الشيء عدم قيام أحد المتعاقدين بما التزم به .

فإذا لم يقصد المتعاقدان أن يقع الالتزام على شيء موجود فعلا وقت نشوء الالتزام ، جاز أن يقع الالتزام على شيء يوجد في المستقبل .

216 – المحل المستقبل : رأينا أنه يجوز التعاقد على محل مستقبل . وقد نصت الفقرة الأولى من المادة 131 من القانون المدني الجديد صراحة على ذلك إذ تقول : ” يجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلا ( [1] ) ” . وقد يبدو أن هذا النص بديهي ، فهو يردد حكماً تقضي به القواعد العامة ، إذ ليس في هذه القواعد ما يمنع من أن يكون المحل الاقبل للتعيين غير موجود وقت نشوء الالتزام إذا كان من شأنه أن يوجد أو أن يكون من الممكن وجوده في المستقبل . ولكن النص مع ذلك أتى بحكم يخالف المعروف من قواعد الفقه الإسلامي ( [2] ) ، فإن هذه القواعد تقضي بأن التعامل لا يصح إلا في شيء موجود ، فبيع المعدوم باطل ، واستثنى السلم ، وجاء الإيجار وهو بيع منافع مستقبلة على خلاف القياس . وقد تأثر القانون المدني المختلط القديم بقواعد الفقه الإسلامي فنص في المادة 330 على ان ” بيع اثمار الشجر قبل انعقادها والزرع قبل نباته باطل ( [3] ) ” . من أجل ذلك حرص القانون الجديد على اباحة التعامل في الأشياء المستقبلة بنص صريح ( [4] ) .

ويترتب على ذلك أنه يجوز بيع المحصولات المستقبلة قبل أن تنبت ، بثمن مقدر جزافاً أو بسعر الوحدة . وقد قضى القانون الجديد على أما كان من خلاف في هذا بين القانون الوطني والقانون المختلط ، ويترتب على ذلك أيضاً أنه يصح أن يبيع شخص من آخر منزلا لم يبدأ بناءه على أن تنتقل ملكية المنزل إلى المشتري عند تمام البناء . فهذا بيع شيء مستقبل محقق الوجود . وقد يكون الشيء المستقبل محتمل الوجود كما إذا باع شخص نتاج ماشية قبل وجودها ، فالنتاج قد يوجد وقد لا يوجد ، والبيع هنا يكون معلقاً على شرط يتحقق إذا وجد النتاج ( [5] ) .

والواقع من الأمر أن التعامل في الشيء المستقبل كثير الوقوع في الحياة العملية . فكثيراً ما يقع أن يبيع صاحب مصنع قدراً معيناً من مصنوعاته دون أن يكون قد اتم صنعها ، بل لعله لا يكون قد بدا في ذلك ، وقد يبيع مزارع محصولات أرضه قبل ظهورها كما رأينا . ويبيع مؤلف مؤلفه قبل أن يتمه ، بل قبل أن يبدأه . وينزل مقاول عن الأجر في مقاولة لم ترس عليه بعد . هذه كلها عقود واقعة على شيء مستقبل ، وهي صحيحة .

على أن القانون قد يحرم لاعتبارات خاصة ضروباً من التعامل في الشيء المستقبل ، كما فعل عندما جعل باطلا رهن المال المستقبل رهناً رسمياً ( م 1033 فقرة 2 ) أو رهنا حيازياً ( م 1098 ) وقد يحرم جميع ضروب التعامل في نوع خاص من المال المستقبل كما فعل عند ما حرم التعامل في التركة المستقبلة ، وهذا ما ننتقل الآن إليه .

217 – التركة المستقبلة : نصت الفقرة الثانية من المادة 131 من القانون الجديد على ما يأتي : ” غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو كان برضاه ، إلا في الأحوال التي نص عليها في القانون ( [6] ) ” . وهذه القاعة ترجع في أصلها الأول إلى القانون الرومانين فقد كان هذا القانون يعد التعامل في التركات المستقبلة مخالفاً للآداب لأن من يتعامل في تركة شخص لا يزال حياً إنما يضارب على موته ، ويعده كذلك مخالفاً للنظام العام إذ هو خليق أن يغري ذا المصلحة بالتعجيل بموت المورث . فالرومان عندما حرموا التعامل في التركة المستقبلة كانوا ينظرون إلى مصلحة المورث ، لذلك كانوا يبيحونه إذا اشترك هذا في العقد . أما القوانين الحديثة فتحرم هذا التعامل لا لمصلحة المورث وحده ، بل لمصلحته ولمصلحة الوارث معاً ، فإن الوارث التي يتعامل في تركة مستقبلة يغلب أن يكون نزفاً لا يقف عند تبديد ما يصل إلى يده من المال في الحال بل يبدد كذلك ما يحتمل أن يملكه في المستقبل . فتحريم هذا التعامل تقرر حماية له من نزقه . لذلك كان التحريم مطلقاً ، لا يرتفع حتى لو رضى المورث خلافاً للقانون الروماني . وجزاء التحريم إذن هو البطلان المطلق بما يستتبعه هذا البطلان من نتائج قانونية .

وكل ضرب من التعامل في تركة مستقبلة باطل ، أياً كان الطرفان ، وأيا كان نوع التعام لز وقد كان هذا هو الحكم أيضاً في القانون المدني القديم ، ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً في هذا الصدد . ونعرض الآن لتحديد ما هو المقصود بالتركة المستقبلة ، ومن يكون طرفاً في التعامل فيها ، وضروب التعامل التي ترد عليها .

فالتركة هي مجموع ما للانسان من حقوق وما عليه من ديون وقت موته . فإذا كان الإنسان على قيد الحياة فهذا المجموع من الحقوق والديون منظوراً إليه وقت الموت هو تركته المستقبلة . والتعامل المحرم هو الذي يقع على تركة مستقبلة في مجموعها أو في جزء من هذا المجموع أو في مال معين ينظر فيه إلى أنه يدخل ضمن أموال التركة ( [7] ) . ويستوي أن تأتي التركة من طريق الميراث أو من طريق الوصية ، فكما لا يجوز للوارث أن يتعامل في نصيبه في تركة مستقبلة كذلك لا يجوز للموصى له أن يتعامل فيما أوصى له به مستقبلاً .

أما الطرف الذي يقع منه التعامل في التركة المستقبلة فقد يكون هو الوارث يبيع لأجنبي نصيبه في التركة المستقبلة ( [8] ) . وقد يقع التعامل بين وارث ووارث آخر يتفقان على قسمة ما سيقع في نصيب كل منهما من الميراث ، أو أن يبيع أحدهما نصيبه من الآخر . وقد يكون التعامل بين المورث نفسه ووارث أو أجنبي ، كأن يتفق المورث مع الوارث على إعطائه نصيباً من التركة اكبر أو أقل من نصيبه القانونين ، أو يتفق مع أجنبي على إعطائه نصيباً من التركة يأخذه بعد موته ، إذ أن المورث لا يستطيع أن يفعل هذا أو ذاك إلا عن طريق الوصية وهي تختلف عن هذا الضرب من التعامل في إنها يجوز الرجوع فيها حتى موت الموصى وفي إنها لا تجوز إلا في حدود معينة . والحكمة في تحريم التعامل على الموارث نفسه ترجع إلى أن أحكام الميراث والوصية من النظام العام ، فإذا أبحنا للمورث التعامل في تركته المستقبلة استطاع أن يحيد عن هذه الأحكام ( [9] ) .

وكل ضرب من ضروب التعامل في التركة المستقبلة محرم كما قدمنا . فلا يجوز للوارث أن يبيع ميراثه المستقبل ، أو يهبه ، أو يقسمه ، أو يقايض به ، أو يقدمه نصيباً في شركة ، أو يصالح عليه ، أو ينزل عنه بإرادته المنفردة . بل هو لا يستطيع أن يؤجره ( [10] ) ، أو أن يجري عليه أي نوع من أنواع التعامل إلا ما أجازه القانون بنص صريح ، وذلك كالوصية ( م 915 جديد ) وقسمه المورث ( م 908 – 913 جديد ) .

2 – المحل ممكن

218 – الإمكان يقابل الوجود : رأينا في الالتزام الذي يكون محله نقل حق عيني أن الشيء الذي تعلق به هذا الحق يجب أن يكون موجوداً . أما الالتزام الذي يكون محله عملا أو امتناعاً عن عمل فيجب أن يكون المحل فيه ممكناً . والإمكان هنا يقابل الوجود هناك ، فإذا كان محل الالتزام مستحيلا ، فإن الالتزام لا يقوم ، ويكون العقد باطلا ، لأنه لا التزام بمستحيل . ( a l’impossible nul n’est tenu ) . وقد نصت المادة 132 من القانون المدني الجديد على ذلك إذ تقول : ” إذا كان محل الالتزام مستحيلا في ذاته كان العقد باطلا ( [11] ) ” .

219 – الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية : والمقصود بالاستحالة هنا الاستحالة المطلقة ، وهي أن يكون الالتزام مستحيلا في ذاته كما تنص المادة 132 ، لا أن يكون مستحيلا بالنسبة إلى الملتزم م فحسب ، فقد يلتزم شخص بعمل فني يكون مستحيلا عليه هو أو يلتزم بأمر يحتاج إلى مقدرة فوق طاقته ، ولكن هذا العمل لا يستحيل القيام به على رجل من أصحاب الفن أو ممن يطيقونه . ففي هذه الحالة يوجد الالتزام ويقوم على محل صحيح ، وإذا كان يستحيل على المدين القيام به فهذه الاستحالة النسبية لا تمنع من قيام الالتزام ، ويكون المدين مسئولا في هذه الحالة عن التعويض لعدم استطاعته القيام بالتزامه ولتسرعه في أن يأخذ على نفسه التزاماً لا يطيقه ، ويجوز فسخ العقد إذا كان ملزماً للجانبين . ولا فرق بين ما إذا كانت هذه الاستحالة النسبية قد سبقت وجود الالتزام أو كانت لاحقة له ، ففي كلتا الحالتين يوجد الالتزام ، ولكن المدين يبرأ من التنفيذ العيني ويكون مسئولا عن التعويض على النحو الذي قدمناه .

أما إذا كانت الاستحالة مطلقة ، وهي ما رجعت إلى الالتزام في ذاته كما رأينا ( [12] ) ، فإنها تمنع من وجود الالتزام إذا كانت سابقة على التعهد بهذا الالتزام ، ولا تمنع من وجوده إذا كانت لاحقة لأن الالتزام قد وجد قبل نشوء الاستحالة وإنما ينقضي بنشوئها بعد أن وجد . فتبرأ ذمة المدين ، ولكن يبقى مسئولا عن التعويض إذا كان هناك تقصير في جانبه ، ويجوز فسخ العقد إذا كان ملزماً للجانبين . ومثل الاستحالة المطلقة أن يتعهد شخص بأن يقوم بعمل يكون قد تم قبل التعهد كما إذا تعهد محام برفع استئناف عن قضية كان الاستئناف قد رفع فيها قبل ذلك ، أو أن يتعهد شخص بالامتناع عن عمل كان قد وقع قبل التعهد .

ويستخلص مما تقدم أن الاستحالة النسبية لا تجعل العقد باطلا سواء أكانت الاستحالة سابقة على وجود العقد أم لاحقة له ، وإنما تجعله في الحالتين قابلا للفسخ إذا كان ملزماً للجانبين لعدم إمكان قيام الملتزم بالتزامه . أما الاستحالة المطلقة فإن كانت سابقة على وجود التعهد فإنها تجعل العقد باطلا ، وإن كانت لاحقة جعلته قابلا للفسخ إذا كان ملزماً للجانبين ( [13] ) .

220 – الاستحالة الطبيعية والاستحالة القانونية : والاستحالة في الأمثلة التي قدمناها استحالة طبيعية – وقد تكون الاستحالة قانونية ، أي ترجع لا إلى طبيعة الالتزام بل إلى سبب في القانون ، كما إذا تعهد محام برفع استئناف عن حكم بعد انقضاء الميعاد القانونين أو نقض في قضية لا يجوز فيها النقض . ففي مثل هذه الفروض ترجع الاستحالة إلى حكم القانون لا إلى طبيعة الالتزام .

والاستحالة القانونية حكمها حكم الاستحالة الطبيعية المطلقة : تمنع وجود لالتزام إذا وجدت قبل التعهد به ، وتنهي الالتزام إذا جدت بعد ذلك وينبني على ما تقدم أن تعهد المحامي برفع الاستئناف إذا صدر بعد انتهاء الميعاد الذي يقبل فيه الاستئناف لا يوجد التزماً في جانبه ، أما إذا صدر قبل الميعاد ولكن المحامي ترك الميعاد ينقضي دون أن يرفع الاستئناف وأصبح رفعه مستحيلا ، فإن الالتزام يوجد أولاً ، ثم يصبح تنفيذه العيني مستحيلا ، فيكون المحامي مسئولا عن التعويض .


 ( [1] ) أنظر تاريخ النص فيما يلي ( فقرة 217 في الهامش ) وانظر المادة 26 من المشروع الفرنسي الإيطالي . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” يجب أن يكون محل الالتزام موجوداً وقت التعاقد . فإذا كان قد وجد ولكنه هلك من قبل ، فلا يقوم الالتزام لانعدام المحل . وينطبق نفي الحكم من باب أولى اذاكان المحل لم يوجد أصلاً ولا يمكن وجوده في المستقبل . ويستثنى من نطاق تطبيق هذا الحكمحالة العقود الاحتمالية . . . فإذا كان المحل غير موجود أصلاً وقت التعاقد ولكنه سيوجد فيما بعد فهذا هو الشيء المستقبل . وهو يصح أن يكون محلا للالتزام بشرط أن يكون معيناً أو على الأقل قابلا للتعيين . وليس ثمة محل للتفريق بين بيع الثمار المنعقدة وبيع الثمار قبل انعقادها على نحو ما فعل التقنين المختلط ( م 330 – 331 ) متأثراً في ذلك بأحكام الشريعة إسلامية ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 2 ص 208 ) .

 ( [2] ) نقول المعروف من أحكام الفقه الإسلامي لأن هناك من فقهاء المسلمين ، كأبن القيم ، من يقول بجواز التعامل في الشيء المستقبل إذا امتنع الغرر ، ومثل ذلك أن يبيع شخص محصول أرضه قل أن ينبت بسعر الوحدة لا بثمن مقدر جزافاً .

 ( [3] ) ثم نصت المادة 331 من القانون المدني المختلط على ما يأتي : ” ومع ذلك فبيع الأثمار المنعقدة وبيع الزرع النابت يشمل أيضاً الأثمار التي تنعقد والزرع الذي ينبت بعد العبي ” . أنظر في القضاء المختلط نظرية العقد للمؤلف فقرة 457 .

 ( [4] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وقد قصد فيما يتعلق بالشرط الأول ، وهو وجود المحل ، أن يزيل كل شك يكتنف حكم الأشياء المستقبلة ، فقرر صلاحيتها لأن تكون محلا للالتزام ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 206 ) .

 ( [5] ) وقد يكون البيع الواقع على التتام معاً احتمالياً ، فيصبح وجد النتاج أو لم يوجد ، ويراعى ذلك طبعاً في تقدير الثمر .

 ( [6] ) تاريخ النص : ورد هذا النص ( بفقرتيه ) في المادة 182 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – يجوز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلا . 2 – غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ، إلا أن يكون برضاه وبورقة رسمية ” . ونرى من ذلك أن المشروع التمهيدي يجيز التعامل في التركة المستقبلة برضاء المورث . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” والأصل حظر التعامل في تركة الإنسان ما بقى على قيد الحياة وفقاً للقواعد التقليدية التي جرى العمل لعيها من عهد الرومان . بيد أن المشروع قد استحدث في هذا الشأن أحكاماً هامة ، فأباح التصرف في التركة المستقبلة إذا ارتضى صاحبها ذلك . والحق أن علة تقرير البطلان ، وهي الخوف من مضاربة الوارث على حياة مورثة ، ينبغي استبعادها إذا كان المورث نفسه قد صح عنده من الأسباب المعقولة ما يقر من اجله التصرف . وبهذا ابيح للورثة أن يتفقوا على تنظيم شؤون التركة وأن يتصرفوا فيما يحتمل أن يؤول إليهم منها ما دام المورث قد اقرهم على ذلك ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 205 في الهامش ) . وورد في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية ما يأتي : ” ورد على قاعدة جواز التعامل في الأشياء المستقبلة استثاء يتعلق بالتركات المستقبلة ، إذ حظر التعامل فيها بضروب التصرفات جميعاً ، كالبيع والمقايضة والشركة والصلح والتنازل وما إلى ذلك . ويراعى أن النص الذي تضمنه المشروع اعم من نص المادتين 263 / 332 من التقنين الحالي ، حيث يقتصر الحظر على البيع . بيد أن بين قواعد المشروع وبين قواعد التقنين الحالي خلافاً أهم مما تقدم يتصل بحكم التعامل في التركة المستقبلة إذا كان حاصلا برضاء صاحبها . فقد احتذى هذا التقنين مثال اغلب التقنينات الأجنبية ، وقضى ببطلان التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه لعدم مشروعية المحل ، باعتبار أن المضاربة على الموت تتعارض مع الآداب . وقد بلغ من أمر هذا الاتجاه أن اعتبر التصرف باطلا ولو كان صادراً من صاحب التركة نفسه كما إذا باع شخص كل أمواله الحاضرة والمستقبلة . أما المشروع فقد اتبع في هذا الشأن مذهباً لا يزال نصيبه من الذيوع غير كبير ( أنظر مع ذلك المادة 636 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 312 من التقنين الالمانين وكذلك المادة 1271 من التقنين الأسباني والمادة 1370 من التقنين الهولندي والمادة 58 من التقنين البولوني ) ، فاستبعد فكرة المضاربة على حياة المورث إذا تدخل هذا في التصرف وارتضاه . وليس كيفي لاتمام التعاقد في هذه الصورة رضاء المتعاقدين ، بل لا بد أيضاً من رضاء المورث ، ويجب أن يكون رضاء الجميع ثابتاً في عقد رسمي . واذاكان التصرف لا ينعقد إلا باجتماع إرادات ثلاث ، فلهذه الحالة نظير في التقنين المصري الحالي ، فحوالة الحق لا تنعقد إلا إذا اقترن رضاء المحال عليه برضاء طرفي الحوالة . وعلى هذا النحو يكون التعامل في التركات المستقبلة قد وصل وفقاً لأحكام المشروع إلى مرحلة جديدة في تطوره . فقد كانت الفكرة في مبدأ الأمر حماية الوارث ، ولهذا شرع البطلان النسبي لمصلحته . ثم اعتبر البطلان بعد ذلك مطلقاً لمخالفة التصرف للآداب من حيث استنكار فكرة المضاربة على موت إنسان لا يزال على قيد الحياة . وانتهى الأمر بالمشروع ، والتقنينات التي اقتبس منها ، إلى وضع المسألة وضعاً جديداً . فكل تصرف يرد على تركة مستقبلة لا يقتصر على المتعاقدين وحدهم ، بل يتناول شخصاً ثالثاً ، يعتبر تدخله ضرورة لا معدى عنها ، إذ الأمر يتعلق بتركته . وإذا كان هذا التدخل إقرارا ضرورياً يصدر من صاحب المصلحة الأولى في التصرف ، فهو في الوقت ذاته كفيل باستبعاد فكرة المضاربة التي استند إليها لاعتبار التصرف مخالفاً للآداب . وغنى عن البيان أن لهذا الوضع الجديد مزايا لا يستهان بها . فهو يبيح اتفاقات لها ، بغير شك ، نفعها من الناحية العملية ، ولا يحول دون الإفادة منها إلا الحظر القائم . فللمورثة مثلا أثناء حياة مورثهم وبموافقته أن يتفقوا على قسمة التركة المستقبلة . ولا شك أن قسمة من هذا القبيل تكون أفضل وابقى من قسمة يجريها الأصول ويلتزم بها الورثة دون أن تكون وليدة إرادتهم . كذلك يجوز لكل وارث أن يتصرف فيما قد يؤول إليه من التركة مع مراعاة الأحكام المقررة بمقتضى قواعد الميراث ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 208 – ص 209 ) .

وبالرغم من الاعتبارات المتقدمة رأت لجنة المراجعة أن تعدل عن هذا التجديد وأن تعود إلى الحكم القديم في تحريم التعامل في التركة المستقبلة ولو برضاء المورث ، فعدلت نص المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا . 2 – غير أن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل إلا في الأحوال التي نص عليها في القانون ” . وقد لوحظ في الرجوع إلى الحكم القديم أن أهم أمر كان يراد تحقيقه من وراء إباحة التعامل في التركة المستقبلة برضاء المورث هو إجازة قسمة المورث ، وقد أجازها القانون الجديد بنصوص صريحة ، فتحقق بذلك ما كان مقصودا ًن ولا ضير بعد هذا من المحافظة على تقاليد القانون القديم فيما يجاوز هذا المقصد . وقد أصبح رقم المادة 135 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ أضيفت إلى الفقرة الثانية عبارة ” ولو كان برضاه ” زيادة في الإيضاح ونسجاً على منوال التقنين القديم . وأصبح رقم المادة 131 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 206 – ص 211 ) . وانظر المادة 26 من المشروع الفرنسي الإيطالي – وقارن المادة 312 من التقنين الألماني والمادة 636 من تقنين الالتزامات السويسري .

هذا وقد كان القانون المدني القديم يتضمن نصاً مماثلا لنص القانون الجديد ، إلا أنه كان مقصوراً على البيع دون غيره من أنواع التعامل ، . فكانت المادتان 263 / 332 تقضيان بان ” بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو برضاه ” . ولكن الفقه والقضاء في مصر كانا يعتبران هذا النص تطبيقا لقاعدة عامة هي تحريم كل ضروب التعامل من بيع وغير بيع ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 456 ) .

 ( [7] ) أما إذا وقع التعامل على مال لم ينظر فيه إلى أنه يدخل ضمن أموال التركة ، فإنه يصح ، وعلى ذلك لا يعتبر باطلا أن يبيع شخص كل ماله الحاضر ، ولكن إذا تصرف في كل ماله الحاضر والمستقبل إلى وقت موته عد هذا تعاملا في تركة مستقبلة . ولا يعد تعاملا في تركة مستقبلة أن يؤجل المدين وفاء الدين إلى وقت موت مورثه ولو كان الباعث له على ذلك أمله في سداد الدين من التركة التي سيرثها ، ولا تأجيل المدين وفاء الدين إلى يوم موته هو ، فليس في هذا تعامل في مال يدخل ضمن تركة مستقبلة ، بل هو تحديد لأجل دين لا علاقة له بالتركة . ولا يكون التعاقد باطلا حتى لو كان الباعث عليه توقع موت شخص معين ، كما إذا كان الدائن لمستحق في وقف قد حصل على أن يكون المستحق التالي في الوقف كفيلا لمدينه توقعاً لموت هذا المدين ، لأن التعامل هنا لم يقع على مال في تركة مستقبلة . كذلك لا يعتبر باطلا تعهد أخ لأخته بان يدفع لها مبلغاً معيناً على إلا تطالب بشيء من ميراث والدتها إذا تبين أن الأم وهبت ابنها جميع أملاكها واشترطت عليه أن يكتب لأخته سنداً بهذا المبلغ ، إذ يعتبر تصرف الأم هبة مال حاضر لا يدخل في تركة مستقبلة وقد اقترنت الهبة بشرط لصالح الأخت ( محكمة الإسكندرية الكلية الوطنية في 18 يونية سنة 1939 المحاماة 10 ص 99 ) .

ولكن يعد تعاملا في تركة مستقبلة أن يتفق الورثة قبل موت مورثهم على عدم الطعن في أية وصية تصدر من المورث لاحدهم أو لأجنبي ، أو اتفاقهم على اعتبار أية وصية تصدر من المورث لأي منهم باطلة . كذلك يعد تعاملا في تركة مستقبلة تصرف لا يحدد فيه الوارث تركة بذاتها بل يبيع حقوقه في أية تركة تؤول إليه ، والزام المورث أحد الورثة دون غيره بتسديد دين من ديون التركة ، وقصر المورث على أحد الورثة دون الآخرين منفعة تعود عليه من عقد .

 ( [8] ) وهناك فرق بين أن يبيع الوارث مالا معيناً على أنه سيؤول إليه في تركة مورثه – وهذا بيع باطل لأنه تعامل في تركة مستقبلة – وبين أن يبيع هذا المال المعين على أنه ملكه في الحال – وهذا بيع ملك الغير وهو قابل للإبطال . فإذا باع شخص عقاراً مملوكا لمورثه واشترط أن البيع لا ينفذ إلا بعد موت المورث ، فهم من ذلك أن البائع يتصرف في حق من حقوقه المحتملة في تركة مستقبلة ، وكان البيع باطلا ( محكمة مصر الكلية الوطنية في 30 أكتوبر سنة 1918 المجموعة الرسمية 21 رقم 44 ) .

 ( [9] ) وقد قضت محكمة النقض بأن كون الإنسان وارثا أو غير وارث ، وكونه يستقل بالإرث أو يشركه فيه غيره ، إلى غير ذلك من أحكام الإرث وتعيين الورثة وانتقال الحقوق في التركات بطريق التوريث لمن لهم الحق فيها شرعا ، كل هذا مما يتعلق بالنظام العام . والتحيل على مخالفة هذه الأحكام باطل بطلانا مطلقا لا تحلقه الإجازة ، ويحكم القاضي به من تلقاء نفسه في أية حالة كانت عليها الدعوى . وتحريم التعامل في التركات المستقبلة يأتي نتيجة لهذا الأصل ، فلا يجوز قبل وفاة أي إنسان الاتفاق على شيء يمس بحق الإرث عنه ، سواء من جهة إيجاد ورثة غير من لهم الميراث شرعاً أو من جهة الزيادة أو النقص في حصصهم الشرعية أو من جهة التصرف في حق الإرث قبل انفتاحه لصاحبه واستحقاقه إياه ، بل جميع هذه الاتفاقات وما شابهها مخالف للنظام العام ، فإذا حررت زوجة لزوجها عقد بيع بجميع أملاكها على أن يتملكها إذا ماتت قبله ، وحرر هذا الزوج لزوجته مثل هذا العقد لتتملك هي ماله في حالة وفاته قبلها ، فإن التكييف الصحيح الواضح لتصرفهما هذا أنه تبادل منفعة معلق على الخطر والغرر ، وانه اتفاق مقصود به حرمان ورثة كل منهما من حقوقه الشرعية في الميراث ، فهو اتفاق باطل . أما التبرع المحض الذي هو قوام الوصية وعمادها فلا وجود له فيه ، ويشبه هذا التصرف أن يكون من قبيل ولاء الموالاة ولكن في غير موطنه المشروع هو فيه مادام لكل من المتعاقدين ورثة آخرون ، بل هو من قبيل الرقبى المحرمة شرعا ( نقض مدني في 14 يونية 1934 مجموعة عمر 1 رقم 199 ص 449 ) .

ولكن لا يوجد ما يمنع المورث ، أن يبيع لوارثه في الحال مالا مملوكا له ، أو يهبه إياه ، فليس هذا تعاملا في تركة مستقبلة ، بل هو تصرف في مال حاضر . وقد قضت محكمة النقض بأن قوانين الإرث لا تطبق إلا على ما يخلفه المورث من الأموال بعد موته ، وأن تقيد التصرفات لا يكون إلا ابتداء من مرض المورث . وأما قبل ذلك فالمالك الكامل الأهلية حر التصرف في ملكه ، ولو أدى تصرفه هذا إلى حرمان ورثته أو تعديل انصبتهم ، ولو كان التصرف صادراً لأحد الورثة ، وهذا بطبيعة الحال ما لم يكن التصرف مشوباً بعيب . وأن هذا حق لا غبار عليه ، ولا يناقض ما قررته محكمة النقض في حكمها الصادر في 14 يونية سنة 1934 ( وهو الحكم السابق الإشارة إليه ) ( نقض مدني في 4 يونية سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 372 ص 1138 ) .

هذا والتعليل الذي ذكرناها في تحريم التعامل في التركة المستقبلة على المورث نفسه هو التعليل الذي قالت به محكمة النقض كما رأينا . وهو تعليل غير مقنع ، إذ يكفي لتجنب ما سيق من اعتراض يرجع إلى التحليل على مخالفة أحكام الميراث إلا يحرم من هذا التعامل إلا ما كان فيه مخالفة لهذه الأحكام ، ويبقى صحيحاً تعامل المورث في تركته إذا لم يخرج على أحكام الإرث والوصية . وقد سبقت الإشارة إلى أن المشروع التمهيدي تضمن حكما في هذا المعنى حذف في المشروع النهائي .

 ( [10] ) فإذا تعهد شخص بإيجار عين ستؤول إليه في تركه كان عقده باطلا ( محكمة النقض الفرنسية في دوائرها المجتمعة في 2 يوليه سنة 1903 داللوز 1903 – 1 – 553 ) .

 ( [11] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 183 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – إذا كان محل الالتزام الذي نشأ عن العقد أمراً مستحيلا استحالة مطلقة ، كان العقد باطلا . 2 – أما إذا كان الأمر مستحيلا على المدين دون غيره ، صح العقد وألزم المدين بالتعويض لعدم وفائه بتعهده ” . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” إذا كانت الاستحالة مطلقة ، فالمحل غير موجود في الواقع . ولا يكون الالتزام نصيب من الوجود إلا إذا طرأت الاستحالة بعد قيام العقد ، فيكون للمتعاقد في هذه الحالة أن يرفع دعوى الفسخ لا دعوى البطلان . أما إذا كانت الاستحالة نسبية ، أي قاصرة على الملتزم وحده ، فالعقد صحيح ويلزم المتعاقد بتنفيذه . على أن التنفيذ إذا استحال على المدين ، كان للدائن أن يقوم به على نفقة هذا المدين طبقاً للقواعد العامة ، وله أيضاً أن يطالب بالتعويض إلا إذا اختار فسخ العقد مع المطالبة بتعويض إضافي ، إن كان ثمة محل لذلك . وقد اقتصر المشروع فيما يتعلق باستحالة المحل على ذلك القاعدة العامة ولم ير داعياً لتفصيلها بالاستكثار من التطبيقات الجزئية . فبعض هذه التطبيقات قد ورد في مواضع أخرى من المشروع ، وبعضها من اليسير أن يستنبط من المبادئ العامة ( أنظر المادة 307 من التقنين الألماني والمادة 20 من تقنين الالتزامات السويسري والمادتين 56 و 57 من التقنين البولوني ألخ . . . على الأخص فيما يتعلق بالاستحالة الجزئية ورجوع من يجهلها من المتعاقدين بالتعويض ) ” . وفي لجنة المراجعة حذفت الفقرة الثانية من النص لصعوبة تحديد معيار الاستحالة النسبية واكتفى بالفقرة الأولى بعد تحديد الاستحالة فيها بان الأمر يكون مستحيلا في ذاته ، وأصبح النص كما يأتي : ” إذا كان محل الالتزام مستحيلا في ذاته كان العقد باطلا ” . وأصبح رقم المادة 136 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ قيل أن المراد من أن الأمر يكون ” مستحيلا في ذاته ” هو أن يكون مستحيلا استحالة مطلقة ، وقد وافقت اللجنة على المادة دون تعديل وأصبح رقمها 132 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 211 – ص 214 ) .

 ( [12] ) لا تكون الاستحالة مطلقة إلا إذا رجعت إلى الالتزام في ذاته ، فيكون الالتزام مستحيلا بالنسبة إلى موضوعه ، لا بالنسبة إلى شخص معين سواء كان هذا الشخص هو الملتزم أو كان شخصاً غيره . فيجب إذن أن تكون الاستحالة استحالة موضوعية ( impossibilite objective ) بالنسبة إلى جميع الناس ، لا استحالة شخصية ( impossibilite subjective ) بالنسبة إلى بعض دون بعض .

ومن ثم فبيع ملك الغير تعتبر الاستحالة فيه استحالة نسبية . وإذا كان الالتزام بنقل الملكية في هذا البيع مستحيلا على البائع ، فليس هو بالأمر المستحيل في ذاته ، ويستطيع المالك الحقيقي ، بل يستطيع نفس البائع إذا أصبح مالكا ، أن يقوم بتنفيذ هذا الالتزام ، ولولا ورود نص يجعل بيع ملك الغير قابلا للإبطال ( م 466 من القانون المدني الجديد ) ، لكان هذا البيع صحيحا قابلا للفسخ .

 ( [13] ) وقد تكون الاستحالة المطلقة اللاحقة لوجود العقد قوة قاهرة ، إذا هي لم ترجع إلى تقصير الملتزم ، فينقضي الالتزام بها ، وينفسخ العقد إذا كان ملزماً للجانبين .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

قوانين أردنية  مهمة :

قانون التنفيذ الأردني وفق أحدث التعديلات

قانون العقوبات الأردني مع كامل التعديلات 

قانون التنفيذ الأردني مع التعديلات

 قانون المخدرات والمؤثرات العقلية

القانون المدني الأردني

قانون أصول المحاكمات الجزائية

قانون الملكية العقارية الأردني

قانون الجرائم الإلكترونية

قانون محاكم الصلح

جدول رسوم المحاكم

قانون العمل الأردني

قانون البينات الأردني

قانون أصول المحاكمات المدنية

 

 

مواضيع قانونية مهمة :

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

شروط براءة الاختراع في القانون الأردني

جريمة النصب في القانون المغربي

الذم والقدح والتحقير والتشهير

انعدام الأهلية ونقصها 

صفة التاجر مفهومها وشروطها

جريمة إساءة الأمانة

أحدث نموذج عقد إيجار

عقد البيع أركانه وآثاره

 

 

 

الاستغلال كعيب للرضا

الاستغلال كعيب للرضا

202 – الاستغلال والغبن : الغبن هو المظهر المادي للاستغلال . ويمكن تعريف الغبن بأنه عدم التعادل بين ما يعطيه العاقد وما يأخذه .

ويستخلص من هذا التعريف : ( 1 ) أن الغبن لا يتصور إلا في عقود المعاوضة غير الاحتمالية . أما عقود المعاوضة الاحتمالية وعقود التبرع فلا يتصور فيها الغبن ، لأن الأولى طبيعتها تقضي بوقوع الغبن على أحد المتعاقدين ، ولان الثانية يعطي فيها أحد المتعاقدين ولا يأخذ فلا محل للكلام عن عدم التعادل بين ما أخذ وما أعطى ( [1] ) . ( 2 ) أن الغبن يقدر وقت تمام العقد ، فينظر إلى التعادل في هذا الوقت ، ولا عبرة بتغير القيم بعد ذلك . ( 3 ) أن الغبن يصعب الاحتراز منه ، فلا بد من التسامح في الغبن اليسير والوقوف عند الغبن الفاحش ، وبهذا التمييز العملي يقول الفقه الإسلامي .

203 – تطور الغبن من نظرية مادية للغبن إلى نظرية نفسية للاستغلال : والغبن مشكلة اجتماعية لم يهتد القانون إلى حلها حلا مرضياً . فهي قائمة على اعتبارات اقتصادية وأدبية غير ثابتة ، فإذا ساد المدنية مذهب الفردية وما يتبعه من سيطرة مبدأ سلطان الإرادة ، رأينا القانون لا يقم للغبن وزناً . ثم إذا تطورت المدنية وضعف مذهب الفردية ومبدأ سلطان الإرادة ، تدخل القانون لمنع الغبن .

كان الرومان متشبعين بروح الفردية ، ومن أجل ذلك لم يكن القانون الروماني يعبأ بالغبن . ولما ساد الدين المسيحي أوروبا في القرون الوسطى ، انتكصت روح الفردية . وإذا كان مذهب سلطان الإرادة أخذ في الظهور منذ ذلك الوقت ، فإن رجال الكنيسة قيدوا هذا المبدأ بالعدالة وبحماية الضعيف من استغلال القوى ، وتوسعوا في نظرية الغبن ، فحرموا الربا في عقود القرض ، وحددوا للسلع أثمانها وللعمل اجره ، وهذا ما كانوا يسمونه بالثمن العدل ( juste prix ) وبالأجر العدل ( juste salaire ) . وعنيت الشريعة الإسلامية بحالة معينة من حالات الغبن وهي العقود الربوية ، فحرمت الربا وتعقبته في جميع مظان وجوده . ثم عادت روح الفردية وساد مبدأ سلطان الإرادة ، فضاق من تحريم الغبن ما كان قد اتسع . وعادت القوانين لا تعتد بالغبن إلا في أحوال معينة . وقويت هذه النزعة في الثورة الفرنسية ، فألغت الصورة حتى تعيين الحد الأقصى للفائدة وحتى تحريم الغبن في بيع العقار . وورث القانون المدني الفرنسي ، ومن ورائه القانون المدني المصري القديم ، هذه التقاليد ، فجاءت أحكامها ضيقة في الغبن . وقد التزم القانونان نظرة مادية للغبن . فالغبن فيهما لا يؤثر في صحة العقود إلا في حالات استثنائية نص عليها ، والعبرة في الغبن بالقيمة المادية للشيء لا بالقيمة الشخصية بالنسبة إلى المتعاقد ، والغبن عيب قائم بذاته مستقل عن عيوب الرضاء ، وهو عيب في العقد لا عيب في الرضاء ، وآيته إلا يكون هناك تعادل بين قيمة ما أعطى المتعاقد وقيمة ما أخذ على أن يصل الاختلال في التعادل إلى رقم محدود . واظهر حالة للغبن في القانون المدني المصري القديم حالة البيع إذا وقع على عقار القاصر ( م 336 – 337 / 19 – 4204 ) . وهناك حالات أخرى كانت منتثرة في نواحي هذا القانون ، كالفائدة لا يزيد حدها الأقصى على 8 في المائة ، وكعقد الوكالة يجوز فيه أن يعاد النظر في اجر الوكيل .

وقد تطورت هذه النظرية المادية في الغبن إلى نظرية نفسية في الاستغلال أخذ بها أكثر التقنينات الحديثة . والفرق ما بين النظريتين يتخلص في أمرين : ( أولاً ) في النظرية الأولى ينظر إلى قيمة الشيء نظرة مادية لا نظرة شخصية ، فالعبرة بقيمة الشيء في حد ذاته ، وتحدد هذه القيمة تبعاً للقوانين الاقتصادية وأهمها قانون العرض والطلب . أما في النظرية الأخرى فالعبرة بالقيمة الشخصية وهي قيمة الشيء في اعتبار المتعاقد ، إذ قد يكون الشيء تافها في ذاته كبيراً في نظر من يريد الحصول عليه لاعتبارات ترجع لظروف شخصية . ويترتب على النظرة المادية لقيمة الشيء أنه إذا اختل التعادل في العقد بالنظر إلى هذه القيمة ، فإن الغبن يتحقق حتى لو لم يختل التعادل بالنظر إلى القيمة الشخصية للشيء ، فقد يكون المتعاقد على بينة من قيمة الشيء المادية ولكن يشتريه بثمن اكبر ، غير مخدوع ولا مضطر ، لأن قيمته الشخصية تعدل الثمن الذي بذله . في مثل هذه الحالة يعتبر المتعاقد ، طبقاً للنظرية المادية ، مغبوناً ما دام التعادل قد اختل بالنسبة إلى القيمة المادية ، مع أنه كان عالماً بهذه القيمة ولم يخدع في أمرها ولم يضطر إلى التعاقد ، أي أنه لم يكن ضحية غلط أو تدليس أو إكراه . فالغبن إذن في النظرية المادية هو كما قدمنا عيب مستقل قائم بذاته ، وهو عيب يقع في العقد لا في الرضاء . أما الذي يترتب على النظرة الشخصية لقيمة الشيء فهو إلا يكون هناك غبن إلا إذا رضى المتعاقد أن يدفع ثمناً هو اكبر من هذه القيمة الشخصية ، وهو لا يفعل ذلك إلا إذا كان واهماً في قيمته ، أو مخدوعاً فيها ، أو مضطراً إلى التعاقد ، ولا يكون هذا إلا نتيجة طبش أو رعونة أو عدم تجربة أو عوز أو حاجة . ومعنى ذلك أن الغبن لا يتحقق في مثل هذه الحالة إلا إذا وقع المتعاقد فيما يقرب من الغلط أو التدليس أو الإكراه . فلا يكون الغبن إذن في النظرية الشخصية عيباً مستقلا قائماً بذاته وواقعاً في العقد ، بل هو مظهر من مظاهر عيوب الرضاء . ( اثانيا ) ودرجة الاختلال في التعادل ينظر إليها في النظرية الأولى نظرة مادية ، فهي درجة محددة ، بل هي رقم مرصود . فالغبن الذي يزيد على الخمس كما في الشريعة الإسلامية والقانون المصري ، أو الربع كما في القانون الفرنسي بالنسبة إلى القسمة ، أو النصف كما كان الأمر في القانون الفرنسي القديم ، أو سبعة أجزاء من اثنى عشر كما في القانون الفرنسي بالنسبة إلى بيع العقار ، هو الغبن الذي يعتد به ويستوجب الجزاء ابطالا أو تكملة . وقد يكون الغبن فاحشاً من الناحية الشخصية ، بالنسبة إلى ظروف المتعاقد الخاصة ، ولكنه لا يبلغ القدر المحدد من الناحية المادية ، فلا يعتد به في هذه الحالة ولا يؤثر في صحة العقد . أما النظرية الشخصية فتتخذ في تحديد درجة الاختلال في التعادل معياراً مرناً ، فهي لا تحدد رقما يجب أن يصل الغبن إليه ، بل تترك ذلك لظروف كل حالة ، ويكفى أن يصل الاختلال في التعادل ما بين القيمتين إلى حد باهظ .

وعني عن البيان أن النظرية المادية فيها مزية التحديد ، وفي هذا ضمان لاستقرار التعامل ، إذ يمكن للوهلة الأولى أن نتعرف هل في العقد غبن ، ولا يقتضى ذلك أكثر من عملية حسابية تقدر بها قيمة الشيء المادية ، وننسب هذه القيمة إلى الثمن ، فإن وصل الغبن إلى القدر المحدد اعتد به . ولكن عيب النظرية المادية هو عدم مرونتها ، فهي من الدقة الحسابية بحيث لا تصلح حلا عادلا لمسائل اجتماعية يتغلب فيها العنصر النفسي ، وتختلف ظروفها فتختلف الحلول المناسبة لهذه الظروف . وقاعدة واحدة جامدة تطبق تطبيقاً حسابياً على جميع المسائل ، ودون نظر إلى الفروق ما بين مسألة وأخرى ، تكون قاعدة ظالمة رغما ًمن مظهر خداع فيها للعدالة .

وقد اعتنقت التقنينات الحديثة النظرية النفسية ، وجعلت من الغبن نظرية عامة تنطبق على جميع العقود . فقضى القانون المدني الألماني في المادة 138 ببطلان التصرف القانوني الذي يستغل به الشخص حاجة الغير أو خفته أو عدم تجربته ليحصل لنفسه أو لغيره ، في نظير شيء يؤديه ، على منافع مالية تزيد على قيمة هذا الشيء ، بحيث يتبين من الظروف أن هناك اختلالا فادحاً ( disproportion choquante ) في التعادل ما بين قيمة تلك المنافع وقيمة هذا الشيء . وتقضى المادة 21 من قانون الالتزامات السويسري بأنه في حالة اختلال التعادل اختلالا واضحاً ( disproportion evidente ) ما بين تعهد أحد المتعاقدين وتعهد المتعاقد الآخر ، يجوز للمتعاقد المغبون في غضون سنة أن يعلن بطلان العقد ويسترد ما دفعه ، إذا كان قد دفع إلى هذا الغبن من طريق استغلال حاجة وقع فيها أو خفة أو عدم تجربة . وتقضي المادة 22 من المشروع الفرنسي الإيطالي بأنه إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين بعيدة عن كل تعادل ( hors de toute proportion ) مع ما حصل عليه بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، بحيث يفترض تبعاً للظروف أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف ، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو أن ينقص الالتزامات ( [2] ) .

204 – القانون المصري الجديد : وقد ساير القانون المصري الجديد التقنينات الحديثة واخذ بالنظرية النفسية في الاستغلال ، فنص في المادة 129 على ما يأتي :

 ” 1 – إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشا بينا أو هوى جامحا ، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو ينقص التزامات هذا المتعاقد ” .

 ” 2 – ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد ، وإلا كانت غير مقبولة ” .

 ” 3 – ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوفى الطرف الآخر دعوى الأبطال ، إذا عرض ما يراه القاضي كافيا لرفع الغبن ( [3] ) ” .

وقد حرص القانون الجديد على أن ينص في المادة 130 على أن ” يراعى في تطبيق المادة السابقة ( م 129 ) عدم الإخلال بالأحكام الخاصة بالغبن في بعض العقود أو بسعر الفائدة ( [4] ) ” . والعقود التي يشير إليها أهمها عقد البيع إذا اشترطت فيه الفائدة والشرط الجزائي . وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في هذه العقود . والمهم أن الغبن في هذه الحالات قام على أساس النظرية المادية ، فلم يعتبر عيباً في الرضاء بل عيباً في العقد ، واعتد في الشيء بقيمته المادية لا بقيمته الشخصية ، ووقفت النصوص في بعض هذه الحالات عند رقم محدد التزمته عند تقدير الغبن .

فإذا تركنا جانباً حالات الغبن المتقدم ذكرها روجعنا إلى الاستغلال في نظريته العامة التي تتناول جميع العقود ، وهي النظرية الشخصية التي تضمنها نص المادة 129 سالفة الذكر ، رأينا أن للاستغلال عناصر متى توافرت ترتب الجزاء الذي نص عليه القانون .

فنحن نتكلم : ( أولاً ) في عناصر الاستغلال . و ( ثانياً ) في الجزاء الذي يترتب عليه .

ا – عناصر الاستغلال

205 – العنصران الموضوعي والنفسي : للاستغلال عنصران ، أحدهما موضوعي وهو اختلال التعادل اختلالا فادحاً ، والآخر نفسي وهو استغلال ضعف في نفس المتعاقد .

206 – العنصر الموضوعي : أوردت المادة 129 العنصر الموضوعي للاستغلال في العبارة الآتية : ” إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ” . وهذا هو اختلال التعادل اختلال فادحاً كما قدمنا .

ففي عقد البعي ، لا يشترط التعادل بين التزامات البائع والتزامات المشتري ، فقد يغبن أحد المتعاقدين ولا يمنع الغبن من صحة البيع . ولكن إذا اختل التعادل اختلالا فادحاً بين قيمة المبيع الذي التزم به البائع والثمن الذي التزم به المشتري ، فإن العنصر الموضوعي للاستغلال يتحقق .

وفي الوعد بالبيع ، إذا كان الواعد قد التزم مثلا ببيع منزل كبير القيمة لقاء ثمن زهيد ، بحيث يكون التعادل بين التزام الواعد ببيع المنزل وما حصل عليه من فائدة بوعده هذا وهو الثمن الزهيد قد اختل اختلالا فادحاً ، فإن العنصر الموضوعي للاستغلال هنا أيضاً يتحقق .

وفي الحالة الأولى يكون الاختلال الفادح واقعاً بين التزامات أحد المتعاقدين والتزامات المتعاقد الآخر . وفي الحالة الثانية يقع الاختلال الفادح بين التزامات المتعاقد وما حصل عليه من فائدة بموجب العقد .

والعبرة في تقدير قيمة الشيء بقيمته الشخصية بالنسبة إلى المتعاقد ، لا بقيمته المادية في ذاته . فقد تكون القيمة المادية لمنزل أربعة آلاف ، فيرغب شخص في شرائه بخمسة آلاف لأن قيمة المنزل بالنسبة إليه تبلغ هذا الثمن . فالعبرة هنا بالقيمة الثانية دون الأولى . ولو اشتراه الراغب فيه بخمسة آلاف أو بمبلغ اكبر بحيث لا يكون الاختلال فادحاً بين ما دفعه وما اعتبر قيمة شخصية للمنزل ، فإن العنصر الموضوعي للاستغلال لا يتحقق ، أما إذا دفع ثمناً عالياً يزيد كثيراً على هذه القيمة الشخصية ، كأن دفع ثمانية آلاف مثلا ، جاز القول بأن الاختلال في التعادل اختلال فادح .

فالفداحة في اختلال التعادل معيارها مادي كما نرى . ولكن هذا المعيار ليس رقما ثابتاً ، بل هو معيار متغير تبعاً للظروف في كل حالة . فقد تتحقق الفداحة بثمانية آلاف في المثل المتقدم ، وقد تتحقق بمبلغ أقل ، وقد لا تتحقق إلا بمبلغ اكبر . والقاضي هو الذي يقد بأي مبلغ تتحقق . وينظر في ذلك إلى ظروف كل من المشتري والبائع وإلى جميع الملابسات الأخرى . فالمسالة هنا مسألة واقع لا مسألة قانون ، ومحكمة النقض لا رقابة لها في ذلك إلا من حيث قصور التسبيب ، فإذا بينت محكمة الموضوع الظروف التي جعلتها تقدر أن الاختلال في التعادل فادح م وكان بيانها في ذلك كافياً ، فلا تعقيب لمحكمة النقض . وعبء الإثبات يقع على عاتق المتعاقد المغبون ، فهو الذي عليه أن يثبت الفداحة في اختلال التعادل .

وأكثر ما يكون الاختلال فادحاً في عقود المعاوضة المحددة ( contrats commutatifs ) ففيها يأخذ المتعاقد ويعطي ، وهو يعرف على وجه محدد مقدار ما أخذ ومقدار ما أعطى ، سواء في ذلك أخذ لنفسه أو أخذ لغيره كما في الاشتراط لمصلحة الغير . ولكن قد يقع ذلك أيضاً في العقود الاحتمالية ( [5] ) ، وهي عقود تنطوي على احتمال المكسب والخسارة كما هو معروف . إذ ينبغي أن يكون هناك نوع من التعادل معقول بين احتمال المكسب وقيمته من جهة واحتال الخسارة وقيمتها من هة أخرى . فإذا كان احتمال الخسارة في جانب أحد المتعاقدين ارجح بكثير من احتمال المكسب ، وكان مقدار الخسارة في الوقت ذاته لا يقل كثيراً عن مقدار المكسب ، كان الاختلال في التعادل فادحاً . فلو أن شخصاً امن منزله من الحريق ، وكان المنزل بعيداً كل البعد عن التعرض لخطر الحريق ولم يؤمنه صاحبه إلا تلبية لطلب دائن ارتهن المنزل ، واشترطت شركة التأمين أن يدفع المؤمن له اقساطاً سنوياً عالية ، احتمال خسارتها أرجح بكثير من احتمال احتراق المنزل فتقاضى تعويض عنه هو مبلغ التأمين ، ولم يكن هناك فرق كبير بين مقدار القسط السنوي وبين مبلغ التأمين ذاته ، ففي مثل هذا العقد الاحتمالي وهو عقد التأمين قد يتحقق أن يكون الاختلال في التعادل ما بين التزامات المؤمن له والتزامات شركة التأمين اختلالا فادحاً .

ولا يمكن القول في عقود التبرع إن هناك اختلالا فادحاً في التعادل ، لأن المتبرع يعطي ولا يأخذ . ولكن الاستغلال بالرغم من ذلك يقع في التبرعات كما يقع في المعاوضات . بل هو اشد وطأة في الأولى منه في الثانية . وإذا جاز أن يتحقق الاستغلال فيما يختل فيه التعادل ، فإن الاستغلال يكون أكثر تحققاً فيما لا تعادل فيه أصلاً . والفقرة الثالثة من المادة 129 من القانون الجديد ، وهي تجيز في عقود المعاوضة توقى دعوى الإبطال بتكملة البدل ، تفيد ضمناً أن الاستغلال قد يقع في غير عقود المعاوضة أي في عقود التبرع ( [6] ) . أما كيف يقع الاستغلال في التبرعات فإن ذلك سهل التصور ، بل هو كثير الوقوع فعلا . فقد يتبرع شخص بجميع ماله – ويغلب أن يتم ذلك عن طريق هبة في صورة بيع – لزوجته الثانية وأولاده منها ، مضيعاً بذلك على زوجته الأولى وأولاده منها ميراثهم الشرعي ، ويكون هذا التبرع قد صدر نتيجة لاستغلال زوجته الأولى ضعفه أو هواه . وهنا لا يقال أن التعادل مختل اختلالا فادحاً . بل يقال إنه غير موجود أصلاً ، فالمتبرع أعطى دون مقابل ، وهو لم يرض بهذا التبرع إلا نتيجة استغلال لطيشه البين أو لهواه الجامح .

بل قد يجاوز الاستغلال العقود إلى التصرفات القانونية الصادرة من جانب واحد ، كما إذا أوصى شخص بجميع ما يملك الايصاء به لشخص استغل فيه طيشاً بينا أو هوى جامحاً ، فالوصية هنا يعيبها الاستغلال ، وهي ليست عقداً بل عملا قانونياً صادراً من جانب واحد .

207 – العنصر النفسي : أما العنصر النفسي للاستغلال فقد اوردته المادة 129 في العبارة الآتية : ” وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً ” . وكان المشروع التمهيدي لهذا النص يجري على الوجه الآتي : ” بحيث يكون مفروضاً تبعاً للظروف أن الطرف المغبون قدا ستغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه ، أو بحيث يتبين بوجه عام أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف ” . ثم أصبح نص المشروع النهائي كما يأتي : ” وتبين أن المتعاقد المغبون قد استغل طيشه أو حاجته أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه ، أو تبين بوجه عام أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف ” . ويلاحظ أن المشروعين التمهيدي والنهائي قد توسعا فيما يصح أن يستغل في المتعاقد المغبون : الحاجة والطيش وعدم الخبرة وضعف الإدراك . بل ذهبا إلى مدى أبعد ، فصرحا بان العبرة في كل هذا إلا يكون رضاء المتعاقد المغبون قد صدر عن اختيار كاف . والمشروعان فيما توسعا فيه يتفقان مع التقنينات الأجنبية الحديثة التي تضمنت نصوصاً عامة في الاستغلال ، وقد سبقت الإشارة إليها ، ورأيناها تستعمل الألفاظ ذاتها . ولكن عندما عرض المشروع النهائي على لجنة مجلس الشيوخ اثرت اللجة إلا تتوسع في الاستغلال توسع التقنينات الأجنبية ، وأن تقتصر فيما يصح أن يستغل على الطيش والهوى ، مع اشتراط أن يكون الطيش بيناً والهوى جامحاً ، إمعاناً في تضييق الدائرة التي يطبق الاستغلال فيها ، خشية من التحكم ، ورغبة في انضباط التعامل واستقراره ( [7] ) .

فالعنصر النفسي في الاستغلال ينحصر إذن في أن أحد المتعاقدين يستغل في المتعاقد الآخر طيشاً بيتاً أو هوى جامحاً . وفي القضاء المصري أمثلة بارزة على ذلك . فكثيراً ما يعمد رجل طاعن في السن إلى الزواج من امرأة لا تزال في مقتبل عمرها ، وليس من النادر أن تعمد الزوجة إلى استغلال ما تلقاها عند زوجها من هوى ، فتستكتبه من العقود لنفسها ولأولادها ما تشاء ، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك . وقد تتزوج امرأة غنية من زوج شاب عن ميل وهوى ، فيعمد الزوج إلى استغلال الزوجة وابتزاز مالها عن طريق عقود يمليها عليها . وقد تشتري امرأة حريتها من زوج قديم تؤثر عليه زوجاً جديداً ، فيطلقها الزوج القديم لقاء مبلغ طائل من المال . وقد يلقى الطيش والنزق بشاب ورث مالا كثيراً في أيدي المرابين والمستغلين ، فيستكتبونه من العقود ما يجرده من الكثير من إله ، وهم يستغلون في ذلك نزقه الشديد وطيشه البين . كل هذه أمثلة ننتزعها من حياتنا المصرية لندلل بها على أن الاستغلال ليس بالأمر النادر ، بل هو شيء يقع في الحياة ، وإذا وقع كان القضاء في اشد الحاجة إلى نص يعالج به ما يعرض له من الاقضية في ذلك ( [8] ) . وهو إذا ترك إلى القواعد العامة يتلمس العلاج في عيب بالذات من عيوب الرضاء ، أو يتلمسه في قواعد العدالة ، كما كان يفعل من قبل في ظل القانون القديم ، فإنه لا يلبث أن يضطرب عليه الأمر ، ويكون بين أن يفسر النصوص على غير ما وضعت له ، أو أن يتحرر منها فينفلت إلى تيه ليست فيه معالم مستقرة ولا ضوابط يسترشد بها في خطاه .

ويلاحظ أن هذا العنصر النفسي يقتضى أن يكون المتعاقد المغبون ” لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً ” . ومعنى هذا أن يكون الاستغلال قد وقع من المتعاقد الآخر ، وأن يكون هذا لاستغلال هو الذي دفع المتعاقد المغبون إلى التعاقد . ويترتب على ذلك أمران : ( أولهما ) أن إرادة المستغل تكون إرادة غير مشروعة ، فإنها انصرفت إلى استغلال المتعاقد المغبون ، وهذا عمل غير مشروع ( [9] ) . وإذا كان المستغل لا يد له فما أصاب المتعاقد المغبون من طيش أو هوى ، إلا أنه قد استغل فيه ما أصاب من ذلك ، وهذا ما يجعل الاستغلال قريباً من الإكراه إذا تهيأت ظروفه مصادفة على ما مر بنا ( [10] ) . ( والأمر الثاني ) أن إرادة المتعاقد المغبون تكون إرادة معيبة ، فهي إرادة ضلل بها الطيش البين أو ضغط عليها الهوى الجامح ، وقد دفع بها الاستغلال إلى التعاقد ، فالمعيار هنا معيار نفسي كما هو الأمر في سائر عيوب الرضاء .

ووقوع الاستغلال دافعاً إلى التعاقد مسألة واقع لا مسألة قانون ، فلا تعقيب عليها من محكمة النقض . ولكن الوصف القانوني لوقائع الاستغلال ، وأن ما يصح استغلاله مقصور على الطيش البين والهوى الجامع ، مسألة قانون تبسط عليها محكمة النقض رقابتها .

وعلى المتعاقد المغبون يقع عبء إثبات هذا العنصر النفسي ، إذا هو عنصر مستقل عن العنصر المادي ، لا مستخلص منه ولا مفروض . والنص صريح في هذا المعنى إذ يقول : ” وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً ” . وهذا بخلاف نص المشروع التمهيدي الذي يجعل العنصر النفسي مفروضاً بوجود العنصر المادي فيقول : ” بحيث يكون مفروضاً تبعاً للظروف أن الطرف المغبون قد استغلت حاجته . . . ” .

208 – علاقة الاستغلال بعيوب الرضاء : قدمنا أن العنصر النفسي يقتضى أمرين : أن إرادة المتعاقد المستغل تكون إرادة غير مشروعة ، وأن إرادة المتعاقد المغبون تكون إرادة معيبة .

فإذا نحن اعتبرنا الأمر الأول ، كان العقد الذي أملاه الطرف المستغل عقداً غير مشروع . وإذا نحن اعتبرنا الأمر الثاني ، كان هذا العقد ذاته – الذي لم يرض به الطرف المغبون إلا عن ضلال من طيشه أو ضغط من هواه – عقداً قد داخله عيب من عيوب الرضاء .

بالاعتبار الأول أخذ القانون الألماني ( م 138 ) ، وجعل عقد المستغل باطلا بطلاناً مطلقاً لمنافاته للآداب ( [11] ) . وبالاعتبار الثاني أخذت التقنينات الحديثة الأخرى ومعها القانون المصري الجديد ، وجعلت العقد قابلا للإبطال أو الإنقاص لعيب في إرادة المتعاقد المغبون ( [12] ) .

ويعنينا هنا أن نقف عند الاعتبار الثاني ، وهو الذي أخذ به قانوننا المصري الجديد مقتفياً في ذلك اثر المشروع الفرنسي الإيطالي وكثير من التقنينات الحديثة . فالاستغلال ، وفقاً لهذا الاعتبار ، لا ينظر إليه على أساس أنه عمل غير مشروع صادر من الطرف المستغل ، بل على أساس أنه عمل من شانها أن يعيب إرادة الطرف المغبون . ذلك أن المتعاقد المغبون إذا هو استغل فيه طيشه البين كان مضللا ، وكان العيب الذي يداخل إرادته أقرب ما يكون إلى التدليس الو الغلط . وإذا ما استغل فيه هواه الجامح ، كان العيب الذي يداخل إرادته أقرب ما يكون إلى الإكراه . والأمر في كل ذلك واضح ، فإن المتعاقد المغبون لا يتصور أن يكون قد قبل هذا الغبن فالاحش الذي يختل به التعادل بين ما أخذ وما أعطى اختلالا فادحاً ، إلا أن يكون قد وقع في تدليس أو غلط في حالة الطيش البين ، أو أن يكون ضحية إكراه في حالة الهوى الجامع . ولكن الغلط والتدليس والإكراه في حالات الاستغلال عيوب لا تتميز تميزاً كافياً حتى يقام الدليل عليها ، بل هي عيوب مفترضة ، ويكفي في افتراضها أن يقام الدليل على الاستغلال بعنصريه المادي والنفسي . لذلك لم يقتصر الجزاء فيها على قابلية العقد للإبطال ، بل وضع بديلا عن هذا الجزاء في بعض الأحوال جزاء آخر هو قابلية العقد للانقاص ، وجعلت المدة التي ترفع فيها دعوى الإبطال أو دعوى الإنقاص سنة واحدة من تاريخ العقد . فخالفت دعوى الإبطال للاستغلال ، بهذا وذلك . دعاوى الإبطال الأخرى التي تترتب على الغلط والتدليس والإكراه . وهذا ما نتولى الآن بيانه .

ب – الجزاء الذي يترتب على الاستغلال

209 – دعويان : إذا توافرت شروط الاستغلال التي أسلفنا ذكرها ” جاز للقاضي ، بناء على طلب المتعاقد المغبون ، أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد ” . ويتبين من ذلك أن القانون يرتب على الاستغلال إحدى دعويين : دعوى إبطال ، ودعوى إنقاص .

وسواء طلب المتعاقد المغبون الإبطال أو طلب الإنقاص ، فإنه يجب أن يرفع دعواه في ” خلال سنة من تاريخ العقد وإلا كانت غير مقبولة ” ( م 129 فقرة ثانية ) . والسنة هنا ميعاد لرفع الدعوى لا مدة للتقادم ، فإذا انقضت السنة دون أن يرفع المتعاقد المغبون دعواه ، ورفعها بعد ذلك ، كانت الدعوى غير مقبولة كما يقضي بذلك صريح النص . ويقال عادة في هذا الصدد أن السنة ميعاد إسقاط ( decheance ) لا ميعاد تقادم ( prescription ) . والفرق بين الميعادين أن ميعاد الإسقاط لا ينقطع ولا يقف ، بخلاف ميعاد التقادم فيرد عليه الانقطاع والوقف . وتبدأ السنة من وقت تمام العقد ، وتحسب بالتقويم الميلادي ( م 3 من القانون الجديد ) .

والحكمة في أن القانون جعل ميعاد رفع الدعوى في الاستغلال مدة قصيرة ، وجعله ميعاد إسقاط لا ينقطع ولا يقف ، هي الرغبة في حسم النزاع بشأن العقود التي يداخلها الاستغلال ، فلا يبقى مصري العقد معلقاً مدة طويلة على دعوى مجال الادعاء فيها واسع فسيح . وفي هذا حماية للتعاقد واستقرار للتعامل . أما دعوى الإبطال في الغلط والتدليس والإكراه فسنرى إنها لا تسقط إلا بثلاث سنوات أو بخمس عشرة سنة على حساب الأحوال ( م 140 ) ، وهذه المدة هي فوق ذلك مدة تقادم لا ميعاد إسقاط ، فيجوز أن تطول إذا قام بها سبب من أسباب الانقطاع أو الوقف . والعلة في ذلك أن الطعن في العقد بالغلط أو بالتدليس أو بالإكراه أمر من الميسور نسبياً تبين وجه الحق فيه ولو طال الزمن إلى ما بعد السنة ، فإن كلا من الغلط والتدليس والإكراه شيء يستطاع التثبت من وجوده بأيسر مما يستطاع التثبت من وجود الاستغلال ( [13] ) .

210 – دعوى الإبطال : وإذا اختار المتعاقد المغبون دعوى الإبطال جاز للقاضي أن يجيبه إلى طلبه فيبطل العقد إذا رأى أن الاستغلال عاب رضاء المتعاقد المغبون إلى حد أن افسد هذا الرضاء . وأن المتعاقد المغبون لم يكن ليبرم العقد أصلاً لولا هذا الاستغلال . أما إذا رأى القاضي أن الاستغلال لم يفسد الرضاء إلى هذا الحد ، وأن المتعاقد المغبون كان دون استغلال يبرم العقد لو أن التزاماته لم تكن باهظة ، رفض القاضي إبطال العقد ، معاوضة كان أو تبرعاً ، واقتصر على إنقاص الالتزامات الباهظة على الوجه الذي سيأتي بيانه . والخيار ما بين إبطال العقد وانقاص الالتزامات يسترشد فيه القاضي بملابسات القضية وظروفها ، فالمسالة إذن مسألة واقع لا معقب عليها من محكمة النقض .

ودعوى الإبطال للاستغلال يجري عليها أحكام دعاوى الإبطال الأخرى ، وسيأتي ذكر هذه الأحكام عند الكلام في بطلان العقد . ولكنها تتميز عن سائر هذه الدعاوى في أمرين .

 ( الأمر الأول ) المدة التي ترفع فيها الدعوى ، وقد مر ذكر ذلك .

 ( والأمر الثاني ) أن الطرف المستغل يجوز له أن يتوقى الحكم بالابطال عقود المعاوضات إذا هو غرض على الطرف المغبون ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن . وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 129 على هذا الحكم فقالت : ” ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن ” . فإذا كان العقد معاوضة كالبيع ، وطلب البائع المغبون إبطاله للاستغلال ، جاز للمشتري أن يعرض زيادة في الثمن ترفع الغبن عن البائع . فإذا رأى القاضي أن الزيادة التي عرضها المشتري تكفي لرفع الغبن ، اكتفى بها وامتنع عن إبطال العقد . ومقدار الزيادة الذي يكفي لرفع الغبن يرجع إلى تقدير القاضي . ولا يشترط أن تكون الزيادة بحيث تجعل الثمن معادلا لقيمة الشيء . بل يكفي أن تكون بحيث تجعل الغبن الذي يتحمله البائع لا يصل إلى حد الغبن الفاحش . وينظر القاضي في تقدير ذلك إلى ملابسات القضية وظروفها ، ولا تعقب عليه محكمة النقض ما دام التسبيب وافياً . وغنى عن البيان أن ما قدمناه من دفع زيادة ترفع الغبن لتوقى دعوى الإبطال لا ينطبق على عقود التبرع ، فإن من تلقى التبرع لم يدفع أي مقابل تصح زيادته لرفع الغبن .

211 – دعوى الإنقاص : وإذا اختار المتعاقد المغبون إنقاص التزاماته الباهظة ورفع من بادئ الأمر دعوى الإنقاص ، أو رفع دعوى الإبطال ولكن القاضي رأى الاقتصار على إنقاص التزاماته ، قضى بانقاص هذه الالتزامات إلى الحد الذي لا يجعلها باهظة ( [14] ) . وهذا أيضاً موكول لتقدير القاضي ينظر فيه وفقاً لملابسات القضية وظروفها ، كما هو الشأن في الزيادة التي يعرضها الطرف المستغل لرفع الغبن فيما مر بنا . والمسالة هنا أيضاً مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليها . ففي البيع المشوب بالاستغلال إذا رفع البائع المغبون عوى الإنقاص ، أو رفع دعوى الإبطال ولكن رؤى الاقتصار على الإنقاص ، جاز للقاضي أن ينقص من المبيع القدر الذي يراه كافياً لرفع الغبن الفاحش عن البائع ولا يشترط هنا أيضاً أن يكون الباقي من المبيع معادلا للثمن . بل يكفي إلا يكون هناك غبن فاحش إذا قوبل هذا الباقي بالثمن .

ولا يجوز وقت النظر في إنقاص التزمات البائع الباهظة أن يعدل القاصي عن إنقاص التزامات البائع إلى الزيادة في التزمات المشتري ، بان يزيد في مقدار الثمن بدلا من أن ينقص في قدر المبيع : فإن نص القانون لا يجير ذلك ، ولانه إذا كان إنقاص مقدار المبيع لا يؤذى البائع بل يرفع عنه الغبن ، فإن الزيادة في الثمن قد تؤذي المشتري إلى حد أن يؤثر العدول عن الصفقة . وإنما تجوز الزيادة في الثمن إذا رغب المشتري نفسه في ذلك بان ترفع عليه دعوى الإبطال فيتوقاها بعرض زيادة في الثمن يراها القاضي كافية لرفع الغبن كما مر .

ويجوز الإنقاص في عقود التبرع التي داخلها الاستغلال كما يجوز الإبطال ، وينقص القاضي التبرع إلى الحد الذي ينتفى معه اثر الاستغلال .

212 – دفع ما وجه من اعتراض على نظرية الاستغلال : خشى كثيرون من هذا النص العام الذي ورد في القانون الجديد عن الاستغلال ، ورأوا فيه ما يعرض التعامل إلى التقلقل وعدم الاستقرار ، وحسبوا أنه سيكون مصدراً لكثير من المنازعات والدعاوى . ولا نرى ما يبرر هذا التخوف ، فإن القضاء المصري قد واجه فعلا اقضية الاستغلال في الأمثلة التي قدمناها ، وعالجها بالقدر الذي استطاع عن طريق تطبيق القواعد العامة . وقد رأينا أن القواعد العامة لا تكفي هنا ، وأن نصاً عاماً في الاستغلال ، لاسيما إذا شمل هذا النص حالات الاستهواء أيضاً ، تفرضه الضرورة وتوجبه مقتضيات التعامل . فيواجه القاضي ما يعرض له فعلا من حالات الاستغلال بنص صالح تنضبط به المعاملات ، وتنقطع معه أسباب الخلاف والتردد .

والغريب أن خصوم نظرية الاستغلال يناقض بعضهم بعضاً . ففريق منهم يرى أن هذا النص العام في الاستغلال سيكون مصدراً لكثرة المنازعات والدعاوى ( [15] ) . وفريق آخر يقول على النقيض من ذلك أن النص نادر التطبيق ، وأن اقضية الاستغلال التي طرحت أمام المحاكم في البلاد التي اشتملت قوانينها على هذا النص كانت من القلة بحيث أصبح النص عديم الجدوى ( [16] ) . وسنرى ما يصير إليه الأمر في مصر بعد أن تطبق المحاكم المصرية النص الذي أشتمل عليه القانون الجديد ( [17] ) .

الفرع الثاني

المحل

 ( L’ Objet )

213 – تعريف محل الالتزام : محل الالتزام هو الشيء الذي يلتزم المدين القيام به . والمدين يلتزم كما قدمنا أما بنقل حق عيني أو بعمل أو بالامتناع عن عمل .

والالتزام بنقل حق عيني إنما هو التزام بعمل . ولكن لما كان الأصل أن هذا لالتزام يتم تنفيذه بمجرد نشوته ، فقد صار من المألوف أن يقال إن محل الالتزام بنقل حق عيني هو هذا الحق العيني ذاته . فإذا كان الحق العيني حق ملكية امتزج بالشيء الملوك وأصبحا شيئاً واحداً ، فصار الالتزام بنقل الملكية محله هو الشيء ذاته الذي تنتقل ملكيته .

214 – الشروط الواجب توافرها في محل الالتزام : يستخلص من نصوص القانون الجديد ( م 131 – 135 ) أن محل الالتزام يجب أن يكون : ( 1 ) موجوداً إذا كان شيئاً ( أي محلا لالتزام بنقل حق عيني ) ، أو ممكناً إذا كان عملا أو امتناعاً عن عمل . ( 2 ) معيناً أو قابلا للتعيين . ( 3 ) قابلا للتعامل فيه ( [18] ) .


 ( [1] ) وسنرى أن الاستغلال قد يقع في العقود الاحتمالية بل وفي عقود التبرع ، فهو أوسع مدى من الغبن .

 ( [2] ) أنظر أيضاً القانون الإيطالي الجديد ( م 1448 الفقرة الأولى ) والقانون البولوني ( م 42 ) والقانون اللبناني ( م 214 ) والقانون النمساوي ( م 879 ) والقانون الصيني ( م 74 ) . وقد قدم النائبان الفرنسيان جيبال وديبان ( Guibal et Dupin ) إلى مجلس النواب الفرنسي في 20 يونيه سنة 1920 مشروع قانون يكمل المادة 1118 من القانون الفرنسي ويضع نصاً عاما يحرم الاستغلال في جميع العقود ، فيقضي بأن يكون الغبن سبباً في إبطال العقد إذا كان الاختلال في التعادل ما بين الالتزامات التي تنشأ عنه جسيما ، وكان هذا يرجع إلى استغلال حاجة الطرف المغبون أو خفته أو عدم تجربته ( أنظر الوثائق البرلمانية الفرنسية : مجلس النواب سنة 1920 الملحق فقرة 1112 ص 1786 ) .

هذا ويستخلص من بحث أجرى في البلاد التي تتضمن قوانينها المدنية نصوصاً عاماة في الاستغلال على النحو الذي تقدم ذكره أن هذه النصوص نادرة التطبيق ، وكان كثير من النقاد يتوقعون عكس ذلك ويخشون من أن هذه النصوص تكون مدعاة لكثرة التقاضي ( أنظر مذكرات غير مطبوعة للاستاذ مورل ( Morel ) في بعض مسائل متعلقة بتكوين العقود وبقوتها الملزمة : باريس سنة 1948 – 1949 ص 387 ) .

 ( [3] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 179 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل مطلقاً مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بوجب العقد ، أو لا تتعادل مطلقاً مع التزامات المتعاقد الآخر ، بحيث يكون مفروضاً ، تبعاً للظروف ، أن الطرف المغبون قد استغلت حاجته أو طيشه أو عدم خبرته أو ضعف إدراكه ، أو بحيث يتبين بوجه عام أن رضاءه لم يصدر عن اختيار كاف ، فيجوز للقاضي بناء على طلب الطرف المغبون أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد . ويسري هذا الحكم حتى إذا كان التصرف الذي صدر من الطرف المغبون تبرعا . 2 – ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى البطلان إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن ” . وقد ادخلت لجنة المراجعة بعض تعديلات على المادة ، وأصبح رقمها 133 في المشروع النهائي . ووافق عليها مجلس النواب كما وردت في المشروع النهائي . أما لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ فقد تناقشت طويلا في هذه المادة ، وكانت تميل في أول الأمر إلى حذفها ، ثم اتجهت إلى تقييدها على الوجه الآتي : ” 1 – إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر ، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوى جامحاً ، جاز للقاضي بناء على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو ينقص التزامات هذا المتعاقد . 2 – ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد وإلا كانت غير مقبولة . 3 – ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى الإبطال إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن ” . ولوحظ أن الهوى معناه الشهوة الجامحة لا المودة والعطف ، وقد ترك تحديد الطيش والهوى لتقدير القاضي . وراعت اللجنة في التعديل الذي أجرته أن تعدل عن التوسع الذي اختاره نص المشروع وأن تجعل أساس النص قاصراً على استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح . وحذفت من الفقرة الأولى عبارة ” ويسرى هذا الحكم ولو كان التصرف الذي صدر من الطرف المغبون تبرعاط لأنها من قبيل التزيد . وأضافت قيداً يتعلق بميعاد رفع الدعوى . وجاء في ملحق لتقريرها ما يأتي : ” اقترح حذف المادة 129 الخاصة بالاستغلال إذ قد يكون في استيفائها ما يهدد المعاملات ، ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن وضع أحكام خاصة في شأن الاستغلال لا يقتصر أثره على دعم الأسس الخلقية في تنظيم المعاملات بل يجاوز ذلك إلى إقالة القضاء من عناء التحايل على النصوص وتحميل القواعد ما لا تطبق بطبعها . فالقضاء في ظل القانون الحالي قد استنبت فكرة الايحاء والتسلط والاغواء وتوسع في تطبيق ( الغلط في القيمة ) عندما يكون دافعاً إلى التعاقد وتوسل بشتى الوسائل لدفع الحور في صور كثيرة من صور الاستغلال حفلت بها مجموعات الأحكام . وما من شك في أن هذه الحالة بذاتها تعرض المتعاملين لاحتمالات من خلال التقدير وتفاوت مزاج المجتهدين في استحسان الخروج على القواعد العامة ولا تعين على توطيد الاستقرار في قليل أو كثير . لذلك رأت اللجنة أن أفراد نص للاستغلال يكون ادعى إلى إدراك المتعاملين لما قد يتعرض له العقد من طعن في نطاق ضيق واضح الحدود . ولكنها توسطت فلم تر أن يكون نطاق هذا النص رحباً على غرار نظيره في أكثر التقنينات الحديثة ، ومنها التقنين الألماني والسويسري والبولوني واللبنانين والمشروع الفرنسي الإيطالي ، بل اقتصرت فيه على حالتي ” الهوى الجامح والطيش البين ” .

وأصبح رقم المادة 129 ، ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 189 – ص 203 ) .

 ( [4] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 180 من المشروع التهيدي على الوجه الآتي : ” يراعى في تطبيق المادة السابقة عدم الإخلال بالأحكام الخاصة بالغبن في بعض العقود وبما يسمح به القانون من سعر الفائدة ” . فعدلته لجنة المراجعة على الوجه الوارد في نص القانون الجديد ، لجعل النص أدق في الأدلة على المعنى المقصود ، وأصبح رقم المادة 134 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ ، وأصبح رقمه 130 . ووافق عليه مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 203 – ص 204 ) .

 ( [5] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وتحسن الإشارة إلى أن العقود الاحتمالية ذاتها يجوز أن يطعن فيها على أساس الغبن إذا اجتمع فيه معنى الإفراط ومعنى استغلال حاجة المتعاقد أو طيشه أو عدم خيرته أو ضعف إدراكه ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 191 ) . وقد نص القانون اللبنانين صراحة على ذلك ، فجاءت الفقرة الأخيرة من المادة 214 من هذا القانون ما يأتي : ” العقود الاحتمالية ذاتها قد تكون قابلة للإبطال بسبب الغبن ” .

 ( [6] ) وقد كان المشروع التمهيدي يتضمن النص الآتي : ” ويسري هذا الحكم حتى إذا كان التصرف الذي صدر من الطرف المغبون تبرعا ” . ولكن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ حذفت هذا النص لأنه من قبيل التزيد ، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك ( أنظر فقرة 204 في الهامش ) . وبقيت الفقرة الثالثة من المادة 129 وهي تفيد ضمناً كما رأينا أن الاستغلال قد يقع في عقود التبرع .

 ( [7] ) وقد ترتب على تضييق الدائرة التي يطبق فيها الاستغلال أن أصبحت المادة 178 من المشروع التمهيدي – وهي المادة التي حذفت من المشروع النهائي وتعرض كما أسلفنا الحالات خاصة في الإكراه هي حالة الخوف من المطالبة بحق وحالة النفوذ الأدبي وحالة الضرورة – نصاً كان من المفيد استبقاؤه لأن نظرية الاستغلال أصبحت بعد هذا التعديل تضيق بالحالات المشار إليها . وقد قدمنا أنه يمكن اعتبار المادة 178 المحذوفة ليست إلا تطبيقاً للقواعد العامة في الإكراه ، فيستغنى عنها بتطبيق هذه القواعد .

 ( [8] ) وقد عرضت فعلا هذه الاقضية وأمثالها على المحاكم المصرية في ظل القانون القديم فكانت تعالجها في بعض الأحوال معالجة ناقصة عن طريق تطبيق القواعد العامة ( في الإكراه ) أو عن طريق تطبيق قواعد العدالة ، وفي أحوال أخرى كانت تسير وراء القضاء الفرنسي في نظرية الاستهواء والتسلط على الإرادة التي سيأتي ذكرها فيما يلي :

وقد قضت محكمة النقض ( الدائرة المدنية ) بأنه إذا كان الحكم قد بنى قضاءه ببطلان عقد البيع على فساد رضاء البائع لكونه متقدماً في السن ومصاباً بأمراض مستعصية من شأنها أيضاً أن تضعف إرادته فيصير سهل الانقياد خصوصا لأولاده المقيمين معه الذي صدر العقد لهم ، فإنه لا سبيل إلى الجدل في ذلك لدى محكمة النقض لتعلقه بتقدير محكمة الموضوع لوقائع الدعوى ( 2 يناير سنة 1941 مجموعة عمر 3 رقم 89 ص 296 ) . وقضت في حكم ثان بأنه متى كانت المحكمة قد استخلصت من وقائع الدعوى وظروفها أن السند المطالب بقيمته صدر من المورث بمحض إرادته واختياره ، ولم يؤخذ منه بالاستهواء أو بالتسلط على الإرادة ، وكان هذا الاستخلاص سائغاً ، فلا تدخل لمحكمة النقض لأن ذلك من سلطة قاضي الموضوع ( 29 ابريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 55 ص 152 ) . وفي قضية ثالثة كانت الزوجة تريد أن يطلقها زوجها حتى تتزوج من آخر ، فاستغل الزوج هذه الظروف ، وحصل من زوجته على مال وسندات ومنزل وعقد توكيل وعقد إيجار بما تتناهز قيمته خمسين ألفاً من الجنيهات ، ثم طلقها ، ولما طعنت الزوجة في هذا التصرف ، قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن ما اعطته الزوجة لزوجها يعتبر بدل خلع ، ولكن الزوجة كانت في حالة اضطرار عقد تقرير هذه الالتزامات بذمتها ، وأن الرأي الصواب الذي يتحقق به العدل ( أي تطبيقاً لقواعد العدالة ) هو تخفيض هذه الالتزامات إلى الحد المناسب ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 12 يناير سنة 1936 المحاماة 16 ص 723 ) . وقد نقضت محكمة النقض هذا الحكم على أساس أن بدل الخلع في الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مقترناً بصيغة الطلاق وأن المسألة على كل حال يجب أن تحال على القضاء الشرعي للفصل فيها ( نقض مدني في 28 أكتوبر سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 66 ص 178 ) . وقد اعيدت القضية إلى محكمة الاستئناف ولكن الخصوم لم يروا السير في الدعوى الشرعية التي قضت محكمة النقض أن تقف الدعوى المدنية بسببها ، واتفقوا على تسوية النزاع فيما بينهم .

وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنها إذا ثبت أن سند دين صدر من شخص وهو في حالة مرضية كانت حياته فيها مهددة بالخطر مما جعله يفكر في الانتحار ويحاوله مراراً وينتحر بالفعل نف ضلا عن كونه في حالة عقلية تجعله مسلوب الإرادة ، فتعاقده غير مبنى على رضاء صحيح ، ولا تلزم ورثته بوفاء ما تعهد به في هذا السند ( 31 مايو سنة 1933 المحاماة 14 رقم 86 / 2 ص 167 ) . وقضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأنها إذا استغل أحد المتعاقدين حالة الأضرار التي وجد فيها المتعاقد الآخر للوصول إلى غرض غير مشروع أي إلى التزام باهظ ، فالعقد يكون باطلا للإكراه ، فإذا صدرت عدة تعهدات تحت تأثير ضغط الإرادة ونتيجة استغلال رغبة جامعة ، فللمحكمة إقرار التعهدات التي أجازها المتعهد بمحض اختياره بعد زوال الإكراه والحكم ببطلان ما لم يجزه منها صراحة أو ضمنا ( أول ديسمبر سنة 1934 المحاماة 15 رقم 61 / 2 ص 343 ) – أنظر أيضاً محكمة استئناف مصر الوطنية في 9 فبراير سنة 1 937 المحاماة 17 ص 1171 – ومحكمة أسيوط الكلية في 12 يونية سنة 1937 المحاماة 18 ص 261 .

هذا ولما كان القانون المدني الفرنسي لا يتضمن نصا عاما في الاستغلال ، فقد خلق الفقه والقضاء الفرنسيان نظرية الاستهواء ( Captation ) أو الاستغواء ( seduction ) . وقد قصراها على عقود التبرع دون عقود المعاوضة . ولا نرى فرقا بين نظرية الاستغلال في عقود المعاوضة ونظرية الاستهواء في عقود التبرع . والجزاء في الحالتين واحد هو قابلية العقد للإبطال . والأولى إدماج نظرية الاستهواء في نظرية الاستغلال واعتبارهما نظرية واحدة . وقد رأينا القضاء في مصر يلجأ إلى نظرية الاستهواء عندما كانت نظرية الاستغلال تعوزه ( نقض مدني في 29 ابريل سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 55 ص 152 وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم – قارن استئناف مختلط في 18 مارس سنة 1947 م 59 ص 167 – وانظر آنفاً فقرة 197 في الهامش ) . ويرى الدكتور وديع فرج في مذكرات له غير مطبوعة التفريق ما بين نظرية الاستغلال ونظرية الاستهواء ، ويذهب في هذا إلى مدى بعيد ، ويقول أن الجزاء في الاستغلال هو البطلان النسبي أما الجزاء في الاستهواء هو البطلان المطلق ( أنظر ص 138 من هذه المذكرات ) .

 ( [9] ) أنظر سالي في إعلان الإرادة باريس سنة 1929 فقرة 98 على المادة 138 من القانون الألماني .

 ( [10] ) أنظر سالي المرجع المتقدم فقرة 99 ( م 138 الماني ) . وانظر آنفاً فقرة 201 .

 ( [11] ) أنظر سالي المرجع المتقدم فقرة 95 – فقرة 97 ( م 138 الماني ) .

 ( [12] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” لم يأخذ المشروع بمذهب التقنين الألماني فيما يتعلق باستغلال المتعاقد ، بل اقتفى اثر المشروع الفرنسي الإيطالي . وليس معنى هذا التقنين ( الألماني ) أن المغبون قد خضع لتأثير لم يستطع التغلب عليه بإرادته ، وإلا كان من اثر ذلك إلحاق الاستغلال بعيوب الرضاء . ولكن يعيبه أمر مختلف هو أن الطرف الآخر قد استغل فيمن تعاقد معه ما قام به من ضعف وما اشتد عليه من عوز . فليس ينطوي الأمر على عيب في الرضاء ، بل هو ينطوي على عمل مخالف للآداب صدر من المتعاقد الذي حصل على منفعة لا تتناسب مع التزاماته . ولذلك كان الجزاء هو البطلان المطلق لا البطلان النسبي . . تلك وجهة التقنين الألماني . وقد اثر المشروع اطراحها وإتباع ما اختاره المشروع الفرنسي الإيطالي في هذا الصدد . فلم يعتبر الغبن عملا مخالفاً للآداب ، بل اعتبره عيباً من عيوب الرضاء يستتبع وجوده بطلان العقد بطلاناً نسبياً ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 190 – ص 191 ) .

 ( [13] ) ولم يكن المشروع التمهيدي يفرق في هذا الصدد ما بين دعوى الإبطال في الغلط والتدليس والإكراه ودعوى الإبطال أو الإنقاص في الاستغلال ، فكل هذه الدعاوى كانت تتقادم بثلاث سنوات ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 247 ) . ولكن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ادخلت التعديل الذي يقضي بهذا التفريق كما مر بنا ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 200 – ص 201 ) .

 ( [14] ) وإذا صح للقاضي أن يحكم بالإنقاص ولو طلب المتعاقد المغبون الإبطال ، فإن لا يصح له أن يحكم بالإبطال إذا طلب المتعاقد المغبون الإنقاص ، لأن هذا قد قدر مصلحته واقتصر على الإنقاص ، فلا يصح للقاضي أن يحكم بالإبطال وإلا اعتبر أنه قد قضى للخصم بأكثر مما طلب . ويبقى القاضي مقيداً بطلب الإنقاص إذا تقدم به المتعاقد المغبون حتى لو كان الطرف الآخر اثر على إنقاص العقد إبطاله ، ذلك أنه لا يستطيع أن يطلب إبطال عقد استغل هو فيه الطرف المغبون .

 ( [15] ) ومن هؤلاء الدكتور وديع فرج إذ يقول في مذكراته غير المطبوعة ( ص 134 ) ما يأتي : ” ولا أبالغ إذا قلت إن هذا النص الخاص بالاستغلال سيعرض المعاملات لشيء كبير من القلقلة وعدم الاستقرار ، وسيكون مصدراً غزيراً للمناعات والدعاوى ” .

 ( [16] ) أنظر بلانيول وريبير وبولانجيه باريس سنة 1949 جزء 2 فقرة 271 – وانظر أيضاً مذكرات غير مطبوعة للأستاذ مورل ( Morel ) في بعض مسائل متعلقة بتكوين العقود وبقوتها الملزمة : باريس سنة 1948 – سنة 1949 ص 387 ( وقد سبقت الإشارة إليها آنفاً فقرة 203 في الهامش ) .

 ( [17] ) وغنى عن البيان أن العقود التي تكون قد أبرمت قبل نفاذ القانون المدني الجديد يسري عليها القانون القديم ، فلا تطبق بالنسبة إليها قواعد الاستغلال التي مر ذكرها ، بل يقتصر فيها على تطبيق القواعد العامة على الوجه الذي كان معمولا به في القانون القديم . أما العقود التي تكون قد أبرمت منذ نفاذ القانون الجديد ( أي منذ 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فهذه هي التي تسري عليها المادة 129 من هذا القانون .

 ( [18] ) اقتصر القانون المدني القديم في الكلام على المحل على نص واحد ، هو المادتان 95 / 149 . وهما تنصان على أنه ” يجب أن يكون الغرض من التعهد فعلا ممكناً جائزاً ، وإلا كان باطلا . فإن كان الغرض منه إعطاء شيء ، وجب أن يكون ذلك الشيء مما يجوز التبايع فيه لوزم تعيينه بالنوع وأن يكون صنفه مبيناً بكيفية تمنع الاشتباه على حسب الأحوال ” . وقد أشتمل المشروع التمهيدي للقانون الجديد على نص يسرد شروط المحل على هذا النحو ، فنصت المادة 181 من هذا المشروع على ما يأتي : ” يجب أن يكون محل الالتزام الذي ينشأ عن العقد أمراً ممكناً ومعيناً أو قابلا للتعيين وجائزاً شرعاً ، وإلا كان العقد باطلا ” . ولكن لجنة المراجعة حذفت هذا النص في المشروع النهائي اكتفاء بالأحكام المفصلة التي وردت في المواد التالية ( م 131 – 135 ) ، ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 207 في الهامش )

منشور في مقال أقوى محامي الأردن